كان القرن العشرين قرن الأزمنة الظلماء بتعبير أرندت، قرن الأنظمة التوتاليتارية والعنف السياسي اللذين ساهما في نسيان ماهية الإنسان السياسية، حيث شكل تضاءل المجال العمومي وتراجع الحرية السياسية أزمة حقيقية؛ أثرت على جل مستويات الوجود البشري في العالم الحديث؛ وخلفت آثاراً سواء على المستوى الثقافي أو السياسي أو الاجتماعي والبيئي والأخلاقي.
إن" الأنظمة الشمولية " وخاصة النظام النازي الألماني ظاهرة جديدة كليا وغير مسبوقة في التاريخ البشري، تختلف عن أنظمة
الاستبداد والطغيان اختلافا جذريا، إلا أن الأنظمة التوتاليتارية حملت بذور دمارها
في نفسها، وهو ما قاله فيليب هانسن: " أن الدولة الشاملة تحتوي في أحشائها
على بذور تدميرها بالذات، لأسباب من بينها أن كل ولادة لكائن بشري جديد هي بداية،
وتأتي معها الفرصة لإنشاء شيء جديد ما، شيء يشهد على واقع الطاقات البشرية الأصيلة". أباد النظام النازي في ألمانيا الحياة العامة وألغى أي إمكانية لقيام مجال عمومي سياسي حقيقي، حيث تحولت حياة
الناس إلى حياة بئيسة، تدمرت طاقات الناس السياسية وعزلتهم عن بعضهم البعض من خلال
زرع الرعب في نفوسهم.
إن التوتاليتارية تفسد الحياة بشكل عام، بل يصل بها الأمر إلى جعل
الأفراد في حيرة من أمرهم غير قادرين على استخدام عقولهم بالطريقة الصحيحة كما
أنهم لا يفرقون بين الخير والشر؛ بين الحق والباطل. يدمر النظام التوتاليتاري حتى
الحياة الخاصة للأفراد عن طريق الإرهاب والرعب وتحويل الفرد إلى شخص يقدس القائد؛
حيث برز في الوجود نوع جديد من الأفراد والذين تلقبهم المنظرة السياسية الألمانية
حنة ارندت بالرعاع أو الدهماء، حيث يسهل تطويعهم وقولبتهم من طرف الحركة
التوتاليتارية وفق رؤية سياسية وعقيدة إيديولوجية تنتشر في المجتمع ولا تدع مجالاً
للتعددية أو الاختلاف.
إن غياب
سياسة أصيلة تحترم اختلافات أفراد المجتمع، والسماح بالمشاركة السياسية الفعالة
واحتضان الأطراف المعارضة والإصغاء لها هو الذي أفرز ظهور الأنظمة التوتاليتارية
التي شكلت فكر وقيم الفرد في قالب جاهز وفق حملة ادعائية مليئة بالكذب وتزييف
الحقائق وبث الرعب في قلوبهم ومعاقبة كل من سولت له نفسه الوقوف في وجه النظام
التوتاليتاري النازي أو ذكر وحشيته. فمجرد أن تسيطر الحركة التوتاليتارية على الحكم
والسلطة تُباد كل معارضة موجودة أو تنوي الظهور، وتبدأ برسم طريقها وترسيخ
أيديولوجيتها الجديدة عبر وسائلها الدعائية الضخمة أو البروباغندا...في الأنظمة
التوتاليتارية نجد شخصية القائد محاطة برمزية وهالة فريدة وتبجيل وتعظيم وطاعة
رهيبة؛ ولنا في ادولف هتلر نموذج وحتى جوزيف ستالين وبالتالي تصبح إرادة القائد بمثابة القانون الأسمى الذي يسود
الدولة التوتاليتارية وتنتظم بموجبه مختلف أجهزتها، بل تراقب وتتجسس على بعضها
وتخون أصدقائها لتتقرب إلى القائد الملهم.
إن الاستراتيجية التي نهجها الزعيم التوتاليتاري الألماني هي كما سبق الذكر تعزل
أفراد المجتمع عن بعضهم البعض، ويصبح كل فرد يحيط نفسه بسياج من الشك حول
الآخر ويتربص به ويسقطه في المكر ويتهمه بالخيانة؛ قبل أن يفعل هو ذلك، مما يجعل
الدولة تتحول إلى سجن، إلى جو خالٍ من الديمقراطية والانفتاح على المجال العمومي.
القائد التوتاليتاري لا يقوم بالنقد الذاتي فهو يقضي على المعارضين،
فالسلاح الفتاك بيد الزعيم يستعمله في الوقت الذي يشاء وضد من يشاء وتنفذ مشيئته
بكل عنف وإرهاب متى أراد ذلك. التوتاليتارية باللاتينية Totalitas ويُقصد بها الكل، بمعنى لا حدود لتدخل الدولة. إن النظام
النازي ساهم في تفكيك بنية المجتمع الألماني، فقد تحكم في كل جوانب الحياة الفردية
والاجتماعية والسياسية والروحية.
لقد استعان النظام التوتاليتاري النازي بالإيديولوجيا وأحادية الحزب
بقيادة زعيم واحتكار تكنولوجي والسيطرة على الاقتصاد بتنسيق بيروقراطي. تهدف
الدولة الكليانية إلى تفكيك تركيبة المجتمع لا تعترف بالتعددية والانفتاح على
الآخر، سعت إلى تحويل الجماهير إلى قطيع مبرمج والتأثير عليها بالإعلام والعنف،
وتشكيل الأفراد وترويض وعيهم وسلوكهم على النحو الذي تريده الدولة الكليانية.
لقد قاربت
الفيلسوفة والمنظرة السياسية حنة أرندت ظاهرة الشمولية ركزت على جانبها الإيديولوجي والسياسي، تتطرق في أغلب مؤلفاتها لهذه المسألة. لأنها شكلت أزمة
حقيقية لألمانيا، مع مؤلفة كتاب "في العنف" نجد أنها
قامت بتعرية النظام النازي الذي ظهر نتيجة اللامبالاة السياسية ومحايدة الجماهير التي صارت تشكل الأغلبية، قضت الحركة التوتاليتارية على الحركات
الديمقراطية في ألمانيا وتدهور أو انهيار منظومة الطبقات وهي التي عجلت لانطلاق
النازية التي كانت معادية للبورجوازية، كما أنها كانت تستعمل الإيديولوجيا في
أساليبها الدعائية. كما أصيب المجتمع الألماني بالتشتيت عبر حملات التطهير، أصبح
الأفراد مبعثرين ومعزولين وهو الأمر الذي يندرج ضمن سياسة التنظيم التوتاليتاري.
لقد كانت مصانع الموت جحيماً لا مجال للحديث فيه عن القيم والإنسانية، فتاريخ الأنظمة الكليانية هو انتكاسة في تاريخ الفكر البشري الذي يعد
بالسلام والأخوة والتعايش، اعتبرتها مؤلفة أسس التوتاليتارية جريمة ضد الإنسانية، لأن هذه
المصانع التهمت أجساد من من شعوب مختلفة.
فالقائد التوتاليتاري موجود بفضل الجماهير وهي التي في يدها عملية
إزالته، هتلر كان يعرف جيداً هذه المسألة حيث قال مخاطبا رجال الشرطة الألمانية:
" كل ما أنتم عليه، تكونونه عبري، وكل ما أنا عليه، أكونه من خلالكم
فحسب". حتى الفكر حسب هتلر موجود بفضل الأوامر. فالحركة التوتاليتارية
النازية واستبدادها الكلي لا يسمح بأي مبادرة حرة، كانت الحملة الدعائية تقوم
بتزكيتها وهذا ما تؤكده أرنت بقولها : " لقد ادركنا باكراً، وغالبا ما أكدنا
أنه في البلدان التوتاليتارية، يتلازم الإرهاب والحملة الدعائية، حتى ليكونا وجهين
لعملة واحدة". فقد كانت للتوتاليتارية رقابة مطلقة واستخدمت العنف لإثبات
عقائدها الإيديولوجيا، والعمل على تصفية المفكرين سواء في ألمانية النازية أو
إيطاليا الفاشية.
لقد هيئت الحملة الدعائية للجماهير عالم من نسج الخيال وجعلتها ترفض أو تهرب من الواقع الذي
تعيشه؛ وأظهرت العواقب التي تنتظر من يناضل أو يفكر في معارضة الدولة
التوتاليتارية، كانت حملة دعائية قوية للقوة باستخدام وسائل إرهابية بشتى أنواعها
وتهديد كل من سولت له نفسه أن يقف في وجه النظام التوتاليتاري؛ الذي جعل من بث
الخوف وسيلته المفضلة باعتماده على ثلاثة مبادئ أساسية وهي الإيديولوجيا والدعاية
والإرهاب.
كما أن الحملة الدعائية توجه للسكان المحلين أو البلدان المجاورة، ونموذج الحملة الدعائية
خطب هتلر رغبة منه في الحصول على الدعم واجتذاب الآخرين نحوه، بالإضافة إلى
الحملة الدعائية لعب الإرهاب في النازية دوراً بارزاً، فقد كان هو الآخر مظهراً من
مظاهر إبراز القوة، هو ما جعل الجماهير مولعة بالحملة الدعائية." وكذلك يعول
على البروباغندا في غسل العقل الجمعي الجماهيري وتوجيهه وخداعه، ويسحب النظام معه
إلى الحكم أدوات الحركة كشمولية السيطرة على حياة أفراد الدولة بكل أجزائها وفي كل
مجالاتها، وفي ذلك يكون العنف هو الأداة الضاغطة تحقيقا وإرغاما وإنذاراً".
ليست الحرب ما جعلت هتلر يقوم بعدة انتهاكات، تقول ارنت : " إذ لم تكن الحرب
ما حمل هتلر على انتهاك كل الاعتبارات الأخلاقية، إنما جعل
هتلر يعتبر أن المجازر الجماعية التي توفرها الحرب هي فرصة لا تعوض من أجل الشروع
في برامج من الاغتيالات". هتلر معصوم من ارتكاب الخطأ أو ينبغي أن يكون كذلك
في نظر الجماهير.
أما مسألة القضاء على
اليهود فقد كان يقول ذلك بشكل علني في إحدى تصريحاته يقول: "إذا نجح رجال
المال اليهود... مرة أخرى في دفع الشعوب إلى حرب عالمية، ستكون النتيجة إبادة
العرق اليهودي في أروبا". هو الأمر ذاته الذي سعى إليه ستالين فقد كان يصف
اليهود بالطبقات المحتضرة التي ينبغي تصفيتها، كانت النظرة إلى اليهودي دونية
وكأنه مصدر للشر، ومن بين الأمور التي روجت لها الحملة الدعائية هو أن الصراع
الطبقي جاء نتيجة لجشع رجال أعمال اليهوديين. فقد كان الاعتقاد السائد بوجود
مؤامرة يهودية عالمية؛ أمر لا يمكن الشك فيه أبداً وهو الأمر ذاته الذي مزال
سائداً حتى يومنا هذا.
سعت الحركة التوتاليتارية بكل قواها وأساليبها من خلال حملتها
الادعائية إلى تصفية خصومها بعد تولي الحزب النازي السلطة غيّر بنية المجتمع الألماني لا على المستوى السياسي فقط؛ بل في شتى الميادين، ولتحقيق الخير
للحركة النازية ارتكب أفظع الجرائم. إن العنف يجعل النازيين يشعرون بالأمان؛
والعنف هو ما يجعل القائد متميزاً ومتفوقاً.
وصل الشر في معسكرات الاعتقال والإبادة إلى كماله حيث السجناء تقطع
صلتهم بعالم الأحياء، فالأيام التي قضاها السجناء في المعسكرات هي أيام الموت، في
غياب المعايير الأخلاقية والقانونية، والسياسية... إنها بمثابة مملكة الأموات
المغلقة على حد تعبير ارنت، فالمعسكرات النازية هي جحيم وصل إلى درجة الكمال في التعذيب. إن
غياب ما هو قانوني يدخل في إطار الخطوات التي تؤدي إلى السيطرة الكلية. لقد كان
اعتقال اليهود والمرضى والعاطلين عن العمل، المجرمين، تم الترويج له من قبل الحملة
الدعائية على أنه اعتقال حمائي من لدن الشرطة الوقائية، بمعنى منعهم من القدرة على
الفعل والمعارضة. فقد نبهت ارنت لذلك بقولها: " إن القضاء على حقوق الإنسان،
وخنق الشخص القانوني فيه، هما شرطان ضروريان لاستكمال السيطرة على هذا الأخير".
إن معسكرات الاعتقال
هي بطريقة أو أخرى مختبرات تسعى إلى تغيير جذري للطبيعة البشرية بمعنى الكلمة،
عبرت عن ذلك المنظرة السياسية على الشكل الآتي: " ذلك أنه وحالما يصير
المستحيل ممكنا, يغذو المستحيل هو الشر المطلق، العصي على العقاب وعلى المسامحة،
الشر الذي لا تقدر على تعليله أحقر حوافز المصلحة الشخصية، وعقدة الذنب؛ الشر الذي
لا يسع الغضب أن يثأر منه، ولا الحب أن يتحمله، ولا الصداقة أن تسامحه". حيث
" راح الكل يموتون معاً، الفتيّ والعجوز، الضعيف والقوي، المريض
والسليم...ليس كرجال ونساء، كأطفال وبالغين، كصبيان وبنات، كخيّرين وأشرار، كحلوين
وبشعين، بل ينحدرون متساقطين كالبقر، كالأشياء التي ليس لها جسد ولا روح".
كان
الأشخاص في هذه المعسكرات حشرات يتم القضاء عليها بدون شفقة أو رأفة، فضحايا مصانع
الموت بنظر النازيين ليسوا بشريين، وهي المعاملة ذاتها التي يتم بها معاملة
الفلسطينيين الآن وكأن التاريخ يعيد نفسه لكن هذه المرة من كان في السابق ضحية
أصبح الآن هو الجلاد. يبدو فعلا أن الإنسان شرير بطبعه وذئب لأخيه الإنسان؛ لقد
كانت الأوضاع في العالم المعاصر ليست بالجيدة أصبح الإنسان عدمياً، متشائماً،
عبثياً، فسيادة الشر جعلته إنساناً مهمشا، مقصيا، مشرداً، منعزلاً.
سعت التوتاليتارية إلى جعل الإنسان منصاع للهيمنة الكليانية؛ حيث تم
إلغاء الفعل الإنساني والقضاء على الحرية والحصول على ولاء وطاعة الجماهير مهما
كان الثمن. فأما المنظمين لها في غالبيتهم معزولين مجردين من روابطهم الاجتماعية،
لا يشعرون بقيمتهم إلا بالانتماء إلى هذه الحركة أو الحزب. فالحاكم يحرك الجماهير
ككاريكاتورات من أجل حثها على التضحية من أجل النظام التوتاليتاري، لم يكن الإنسان ذو فعالية فيه، مغتربا، منعدم الرأي والقرار، متوهما. فالتوتاليتاريات جردت الإنسان من جوهره وقيمته، جعلت منه كادح يعمل
لتوفير قوت يومه، حولته إلى كائن مستهلك؛ وانتحار حريته. لاحظنا كذلك مع النظام التوتليتاري لا يمكن الحديث
عن مجال سياسي عمومي منفتح على الآخر؛ حيث غياب
مفاهيم الحرية والديمقراطية والتعددية والحوار. كانت هذه الأنظمة تحمل
بذور فشلها منذ نشأتها، فلا يمكن أن يظل الإنسان خلف ستار العنف والخوف والرعب، بل لابد من تسرب نسائم الحرية والأمل والانعتاق من سيطرة القائد
والإيديولوجيا والوعي الزائف. قضت الأنظمة الكليانية على إمكانية قيام مجال عمومي حقيقي تسود فيه
المساواة والحرية.
سؤال الحداثة في الفلسفة الألمانية وعلاقة ذلك بالنظام التوتاليتاري:
إذا كان
عصر التنوير أسس لمشروع الحداثة Modernité؛ التي كانت شعاراتها العقل والعدالة،
الحرية، الكرامة ومجموعة من الحقوق التي نادت بها؛ حيث كانت الحداثة ترنو إلى
إعطاء قيمة للإنسان وتحريره من مختلف أنواع السيطرة، سواء التي كانت تمارسها
المؤسسات الدينية أو السياسة. دعت الحداثة إلى القطع مع التقاليد وكل ما هو ديني
ميتافيزيقي مما يعني أن مفهوم العلمانية كان ملازما للحداثة، وتفسير العالم تفسيرا
عقلانيا، مما يجعلنا نقول بأننا نستطيع تعريف الحداثة من خلال هذا المفهوم أي
العلمانية. هذه الأخيرة تُقال على عدة معاني من ذلك: "معنى فراغ الساحة
العمومية من الدين، ثم معنى الفصل بين الدين والدولة" ( فتحي المسيكيني)
الحداثة يعني تم وضع حد لتدخلات الكنيسة وتعاليمها التي سيطرت على كل
مناحي الحياة، لأنها اعتبرت نفسها الممثل الشرعي لله. غيبت العقل ورفضت العلم
التجريبي؛ كما أنها سلبت حقوق وحريات الإنسان باسم الدين، وبالتالي كانت الحداثة
عبارة عن رد فعل اتجاه الأفكار التي هيمنت في العصور الوسطى. حيث دعت إلى ثورة ضد
هذه الرؤى التقليدية، والتحرر من الماضي وفتح المجال للعقل والتقدم العلمي. فقد
كان لعدد من المفكرين دور هام في تنمية مشاعر روح الرفض للحكم المطلق والتركيز على
كرامة الإنسان وحقوقه، وترسيخ قيم المواطنة لأن المواطن هو الذي بيده القدرة على
تغيير وتوجيه الحكومة إذا استغلت وسيطرت وانحرفت عن المسار الصحيح، كما أن الحركات التنويرية كلها ذهبت إلى تقديس العقل بل ومنحته السلطة
العليا على كل شيء. هذا يجعلنا ننفتح على الفيلسوف الفرنسي رونيه ديكارت René Descartes(1650ـ1596) معه تم بروز
مفهوم الفرد، فرونيه اعتبر العقل جوهر الذات الإنسانية، لأنه بدون العقل لا يستطيع
الإنسان أن يعي ذاته وأن يدرك وجوده ووجود الآخرين، وأن يتوصل إلى حقائق الأشياء.
إن التفكير هو الصفة الجوهرية في طبيعة الإنسان، وبالتالي كان أغلب
فلاسفة التنوير يقدسون العقل مما جعلهم في حماس أدى إلى القول بأن للتاريخ خط
مستقيم تصاعدي، وهذا القول راجع كذلك إلى التأثر بالتقدم الهائل الذي عرفته مختلف
المجالات، لكن هذا التصور لم ينتبه إلى أن هذا التقدم مرتبط بالمجال العلمي التقني
فقط.
لقد زاد بريق الحداثة مع الأعمال الفكرية للفيلسوف الألماني إيمانويل
كانط، إلا أن هذه الأخيرة ( الحداثة) تعرضت لنقد شديد خاصة وأنها تطورت ضد
نفسها، فقد تطورت على حساب القيم الإنسانية ولنا خير مثال الحربين العالميتين،
التي كانت لهما عدة مخلفات من إبادة جماعية وعدد لا يُحصى من القتلى، بالإضافة إلى إلقاء
القنبلتان الذرّيتان على هيروشيما وناكازاكي، وانتشار الأمراض مما يعني أن قيم الحداثة لم تتحقق على أرض الواقع.
الفيلسوف
الألماني إيمانويل كانط هو الآخر، رأى بأن التاريخ الإنساني يسير نحو تحقيق أكبر
قدر من الحرية؛ والوصول إلى الكمال الأخلاقي وتحقيق إنسانية الإنسان. وبالتالي فإن الحداثة لا تعني المزيد من التقدم في الشؤون المادية ولكن، المزيد من
الحرية والكرامة والسلام والتسامح، فواقع القرن العشرين يشهد على عدم تحقق هذه الأمور، حيث لم تفعل قيم
الحداثة بشكل حقيقي.
كثيرا ما كان يتم ربط
الحداثة بالثورتين الفرنسية والأمريكية، فقد كانت شعاراتها هي الحرية والمساواة
والكرامة، الديمقراطية. لقد تم اعتبار الإنسان هو مصدر الحقيقة؛ وبالتالي القطع مع
كل ما يسمى بالقوة الخارجة عن إرادة الإنسان والاستقلال عن كل ما هو ميتافيزيقي
والإعلاء من قيمة العلم. إلا أن هذا الحلم إن صح التعبير قد تم إجهاضه وفق أرندت.
فإذا كان للحداثة نصيب من تلك المدائح؛ فلماذا أرندت تنتقدها؟ هذه الحماسة التي
كانت للحداثة عجلت بتدهورها وانهيارها، لأنها ابتعدت عن القيم الإنسانية وركزت على
كل ما هو مادي، نفعي، مما يعني أن هذا الفكر والإبداع الإنساني تم استخدامه ضد
الإنسان نفسه.
وبما أن أرندت كانت تحاول فهم الواقع، فقد كشفت لنا الوجه الآخر
للحداثة ألا وهو وجه الإقصاء، الاستلاب، التوتاليتاري، العنف، حيث تم تنمية العقل
الأداتي وصار العقل مجرد روبوت، يخدم السيطرة والاستغلال، وتحويل الإنسان إلى مجرد
كائن مستهلك. تم تسليع الإنسان وجعله مغترباً. يتضح لنا إذن أن الحداثة بعد أن كانت تنويرية، عقلانية، علمانية، تقدمية، أضحت كارثة خطيرة على الجنس البشري، رغم أنها دافعت عن الإنسان ومركزته وحريته،
إلا أنها شكلت تهديد حقيقي لهذا الأخير. كانت الحداثة ومازالت تخدم مصالح معينة؛
هاجسها مادي، ربحي، استهلاكي، وبالتالي صارت نقيض ما نادت به. توصلت
أرندت إلى أن أزمة الحداثة وقعت بفعل اختفاء الإنسان واختفاء الفضاء العمومي وظهور مجتمع القطيع.
لقد ربطت أرندت ظهور الحداثة باكتشاف أمريكا والإصلاح الديني، لأن
أهم الأسس التي قامت عليها الحداثة هي القطع مع الكنيسة والقول بمركزية العقل ثم
اختراع التليسكوب. تطرقت أرندت لذلك في كتابها الوضع البشري حيث قالت: "
ثلاثة أحداث كبيرة تهيمن على عتبة العصر الحديث وتحدّد طبيعته: اكتشاف أمريكا
واستكشاف الأرض بأكملها، والإصلاح الديني...واكتشاف التليسكوب". كما أن الدكتور المختار بنعبدلاوي جعل للحداثة ثلاث مرتكزات أساسية وهي: " أولا الاعتراف بالفرد،
ككيان قائم بذاته، مستقلا، له الحق في المشاركة السياسية، المبادرة، ثانيا العقل
كمرجعية كونية، وثالثا نسبية الحقيقة، حيث لا أحد يمتلك الحقيقة، فهي تتولد وتتطور".
إذن هذه القيم التي جاء بها المشروع التنويري لم تقم بحماية الإنسان والحفاظ على
حقوقه، ولعل أهمها حقه في الحياة؛ الذي لا ينبغي انتهاكه من طرف أي كان، إلا أنه
مع النظم الشمولية أصبح الإنسان في مرتبة أدنى، مرتبة يتساوى فيها مع سائر
الحيوانات حيث، اختفت الحرية ودعست الكرامة وتم اغتيال العقل.
لقد انتقدت أرندت الحداثة على الرغم كل ما قيل عنها من تمجيد ومدائح لا تُحصى ولا تُعد، لأن
الإنسان بواسطتها سيطر على الطبيعة ولم يتوقف هنا بل سيطر على الإنسان؛ وكما قال
أبي حيان التوحيدي: ’لقد أشكل الإنسان على الإنسان‘. ونتيجة للتقدم سواء على
المستوى العلمي أو التقني فإن هذا لم يمنع من ظهور النازية والفاشية والستالينية
كذلك. وبالتالي فإن الشعارات التي بنيت عليها الحداثة لنقل وإن صح التعبير طبعا،
بأنها باءت بالفشل في ظل الحروب والثورات والعنف التي شهدها العالم. كل هذه الأمور
سببت انتكاسة للإنسان، حيث اختفت الأحلام الوردية، وتحقق على أرض الواقع نقيض ما
روجت له الحداثة. هذا هو السبب الذي جعل أرندت تنتقد الحداثة. لأن هذه الأخيرة قضت
على المجال العام الذي هو مجال الفعل والكلام والتواجد مع الآخرين؛ إنه مجال
الظهور والبدو، وبالتالي أعطتنا كائن بشري لا يعرف سوى ثقافة الاستهلاك. حيث انتصر فيها الحيوان العامل فقط.
تعني الحداثة سيطرة البيروقراطية وتحويل المجتمع إلى عمّال وموظفين.
إن التقدم العلمي في صناعة القنابل النووية والأسلحة، هو ما سبب لأرندت مخاوف
وجعلها تنتقد الحداثة. عموماً فإن تقدم التقنيات الحديثة له ما له وعليه ما عليه،
لقد سهلت نوعا ما الحياة على الإنسان وتوفير وسائل الراحة له، إلا أننا لا ننسى
كذلك بأنها ساهمت في انتشار الأمراض النفسية من قلق واكتئاب، وزيادة العزلة عن
الحياة الاجتماعية؛ هذه العزلة التي كانت أرندت ضدها.
ما أحوجنا
إلى قراءة أرندت لواقعنا الحالي، حيث هرب الإنسان من الواقع الاجتماعي وركز على
التواصل عن بعد، أي الهرب من الحياة الواقعية، كما تم تعطيل فكر الإنسان الخاص،
لقد أضحى مجرد مستهلك، لقد كان ومزال يطالب الإنسان بالحرية في التفكير وبأنه ضد
الهيمنة والسيطرة فها هو الآن صار عبداً للتكنولوجيا. وبالتالي في ظل التحولات
التي عرفها المجال العلمي التقني أصبح الخوف على الإنسان من الإنسان، لذلك ينبغي
أن يستشعر الكل هذه المخاطر.
رغم
التجديد والابتكار الذي وصل إليه الإنسان، إلا أن أنواع وأشكال التدمير هي الأخرى
قد تطورت وبالتالي ضاعت مجموعة من المكتسبات لأن التاريخ عرف عدة الاضطرابات
وحالات من الركود. فحيثما كان هناك بناء فثمة هدم أيضا، والجوانب المظلمة يتم
تسجيلها، فالتاريخ متعطش لتدوينها. لذلك فالحداثة ينبغي أن تعود إلى مبادئها
الأساس وهي إعطاء الفرد حقه في الاختلاف وكذلك المبادرة والإبداع، وتعطي أرندت
أهمية للفعل السياسي الذي يكون في صالح الفرد وصالح المجتمع.
إذا كانت
الفلسفة قد ولدث في أثينا فإنها لا شك قد ترعرعت ونضجت في ألمانيا، وعندما نقول
ألمانيا فإن الذهن يذهب بشكل مباشر إلى كانط وإنجلز وماركس، هيغل، نتشه، كارل
شميت، هابرماس، هؤلاء غيروا بفضل فلسفتهم تاريخ الإنسانية. تحدثوا عن الحداثة
وطرحوا الأسئلة حولها، مثلا هابرماس اعتبر الحداثة مشروع لم يكتمل بعد وأكد على
مسألة عدم تضيع أو التضحية بالمكاسب التي جادت بها الحداثة مع عين ناقدة. كما أنه
يدعو إلى تحرير الإنسان من كل ما هو تقليدي والتركيز على التواصل، ويقول في هذا
السياق " لم يعد بإمكان الحداثة أن تستعير المعايير التي تسترشد بها بل ولن
تفعل، من النماذج التي تقدمها حقبة أخرى. بل لابد أن تخلق معياريتها من تلقاء
نفسها". أي الاختلاف عن ما كان سابقا وعدم آخذه نموذجا. لقد سعى هابرماس إلى
تحرير الفكر المعاصر من التركيز على الذات، وبالتالي فموقف هابرماس من الحداثة هو
أنها مشروع ناقص وأن العقل الغربي مهما عرف من أزمات فإن ذلك طريق تطوره وأكد على
العقل التواصلي وأهميته الذي من مبادئه الحوار والتسامح والتواصل بين البشر. ونختم
هذا التقديم البسيط بقول هيغل عن الحداثة بأنها تساؤل واحتجاج؛ فالتساؤل يكون على
الممكن أما الاحتجاج فيكون على الأوضاع السائدة.