السياسة: فضاء الحرية والتفاعل في الفكر الإنساني

سعيدة مهير
المؤلف سعيدة مهير
تاريخ النشر
آخر تحديث

تعيش المجتمعات البشرية ضمن إطار سياسي ينظم حياتهم، ويحقق الاستقرار الاجتماعي من خلال حماية الحقوق والحريات الفردية. يتجسد هذا التنظيم في المؤسسات التي تضمن الأمن والحفاظ على النظام الاجتماعي، وتعد الدولة هي الكيان الأبرز الذي يضطلع بهذه المهمة. وفي هذا السياق، تعتبر الدولة العنف وسيلتها الأساسية في حفظ النظام، وتحقيق التنسيق بين أفراد المجتمع لتحقيق "الخير المشترك" وضمان تنمية الخيرات المدنية. وعلى الرغم من أن الدولة كانت معروفة في التاريخ كأداة قمعية، إلا أن الفلسفة السياسية قدمت تحليلات مختلفة لهذا الموضوع، ومنها نظرية حنة أرندت.


السياسة كضرورة حيوية: الحرية والتعدد في الفكر السياسي لأرندت


في كتابها الشهير "ما السياسة؟"، تقدم الفيلسوفة حنة أرندت مفهومًا جذريًا للسياسة. تُعرف السياسة بأنها "ضرورة قهرية" للحياة الإنسانية، سواء على المستوى الفردي أو الاجتماعي. لا يعيش الإنسان في عزلة عن الآخرين، بل يعتمد على غيره لتحقيق وجوده، وهذه العلاقة المتبادلة بين الأفراد هي أساس الحياة المشتركة. تشير أرندت إلى أن الإنسان لا يمكنه أن يعيش مكتفيًا بذاته، بل "يجب أن يكون ثمة قلق يتعلق بشأن وجود الجميع، بدونه لا يمكن للحياة المشتركة أن تكون ممكنة" ([1]). إن السياسة، حسب أرندت، هي أكثر من مجرد تنظيم اجتماعي، بل هي ضرورة وجودية تضمن حياة الإنسان في تفاعله مع الآخرين.

وعلى الرغم من أن السياسة تبدو أداة لتنظيم الشأن العام، إلا أن أرندت ترى أنها تعني في جوهرها ضمان حرية الإنسان في تحقيق غاياته ضمن الإطار الاجتماعي. تُنظم السياسة ليس فقط من أجل تحقيق الأهداف الفردية، ولكن أيضًا من أجل خلق فضاء مشترك يمكن أن يتيح للجميع التفاعل بحرية دون تدخلات مزعجة. وفي هذا السياق، تشير إلى أن "معنى السياسة هو الحرية" ([2])، وهو ما يفتح لنا آفاقًا لفهم السياسة كوسيلة لضمان الوجود الإنساني.

السياسة كفضاء للتفاعل والاختلاف


تشدد أرندت على أن السياسة هي "فضاء بين البشر"، حيث تُبنى العلاقات الإنسانية على اختلافاتها وليس على تماثلها. إذ تعتبر أن السياسة تنشأ وتزدهر في "فضاء الوسائط" الذي يتجاوز الإنسان الفرد. هذا الفضاء لا يتطلب تماثلًا أو انسجامًا تامًا بين الأفراد، بل يُعنى بتطوير "علاقات" بين الأشخاص رغم اختلافاتهم. كما تؤكد أرندت على أن "السياسة تُولد في الفضاء الذي يوجد فيه الناس" ([3])، وهو ما يجعلها ميدانًا للتعدد والاختلاف، بعيدًا عن التجانس الإيديولوجي أو الفكري.

تُعرّف أرندت السياسة بأنها تفاعل بين أفراد المجتمع في فضاء يعترف بالتعدد البشري، حيث تقوم على فكرة أن "التعدد البشري" هو ما يشكل جوهر الفضاء السياسي ([4]). من هذا المنطلق، فإن السياسة ليست مجرد شكل من أشكال إدارة المجتمع، بل هي مجموعة من التفاعلات الإنسانية التي تقوم على احترام الاختلافات وتعزيز حرية الأفراد في التعبير عن آرائهم وتنظيم حياتهم المشتركة.

السلطة والإكراه: مفهوم السياسة كأداة للسيطرة والتوازن


على الرغم من تأكيد أرندت على الحرية والاختلاف كأركان أساسية للسياسة، فإنها تعترف أيضًا بوجود عنف منظم باعتباره جزءًا من أداة الدولة في الحفاظ على النظام. تقول أرندت: "ما هو حاسم بالنسبة لهذه الحرية السياسية هو أنها مرتبطة بفضاء ما" ([5])، مما يشير إلى أن هناك بعض القواعد التنظيمية التي تُفرض لضمان هذا التفاعل السياسي، ولحماية المجتمع من الفوضى. هذه القواعد قد تشمل، في بعض الأحيان، استخدام العنف، الذي يعتبره البعض أداة مشروعة لحماية النظام، على الرغم من أنه يمكن أن يكون وسيلة قسرية في يد الدولة.

تؤكد أرندت أن السياسة تقوم على مبدأ "التعدد البشري"، وهو ما يخلق تفاعلًا اجتماعيًا يعكس تعدد الرؤى والأهداف. لكن الدولة، بما أن لها سلطة إكراهية، تحتاج إلى ضمان استمرار هذا التفاعل بشكل منظم لضمان الحفاظ على النظام السياسي، وحتى لا تتحول السياسة إلى حالة من الفوضى والعنف غير المنظم.

في هذا السياق، يقدم ماكس فيبر مفهومًا آخر للسياسة، حيث يُعرّفها بأنها "السعي من أجل المشاركة بالسلطة أو التأثير في توزيعها" داخل الدولة أو بين الدول المختلفة ([6]). يشير هذا إلى أن السياسة ليست مجرد ممارسة سلطوية بل هي عملية ديناميكية تشمل مختلف المجموعات السياسية في المجتمع، وتحقيق مصالحها من خلال مؤسسات قانونية وتنظيمات اجتماعية.

الحرية السياسية: مسار نحو المساواة والتعايش


عندما نتحدث عن الحرية في السياسة وفقًا لأرندت، فإننا نتحدث عن "الحرية الإيجابية"، أي القدرة على الوجود والتفاعل بحرية مع الآخرين في "الفضاء السياسي". هذا الفضاء ليس مجرد موقع جغرافي أو مجال محدود، بل هو مكان يتواجد فيه الإنسان بين أقرانه، حيث تُتاح له فرصة الظهور والمشاركة. كما تقول أرندت: "الحرية السياسية هي الحرية التي لا يمكن خلقها إلا بفضل الناس، وهي موجودة بين أقرانهم" ([7]). إنها حرية تعني التفاعل والمشاركة، حيث لا يمكن للإنسان أن يكون حرًا في عزلة، بل في علاقاته مع الآخرين.

في هذا السياق، السياسة وفقًا لأرندت ليست مجرد سلطة تتحكم في الأفراد، بل هي أيضًا نظام يضمن التعايش والتنظيم في إطار من التعدد والاختلاف، مما يفتح المجال لظهور مختلف الآراء والرؤى في المجتمع. من هنا، تأتي أهمية التفاعل في السياسة كشرط أساسي لضمان حرية الإنسان في ممارسة حقوقه داخل المجتمع.

خاتمة: السياسة كأداة للتنظيم وحماية الحياة

ختامًا، نجد أن حنة أرندت قد قدمت رؤية معمقة للسياسة، تجاوزت المفاهيم التقليدية التي ترتبط بالسلطة والقمع. بالنسبة لها، السياسة هي مجال يتأسس على الحرية والتعدد البشري، وهي ضرورة لاستمرار الحياة الإنسانية في إطار جماعي. بينما تعترف بوجود عنف منظم كأداة ضرورية في يد الدولة لضمان النظام، فإنها ترى أن السياسة هي ميدان التفاعل بين الأفراد، الذي يجب أن يتسم بالحرية والاختلاف. من خلال هذه الرؤية، نجد أن السياسة ليست مجرد فعل إداري بل هي عملية حياتية متواصلة تضمن حرية الأفراد وتستمر مع تطور المجتمعات.

المصادر:

[1] حنة أرندت، "ما السياسة؟"، ترجمة وتحقيق: د. زهير الخويلدي، دار الأمان، الرباط، 2014.
[2] نفس المرجع.
[3] نفس المرجع.
[4] نفس المرجع.
[5] د. إبراهيم أبراش، "تاريخ الفكر السياسي"، مطبعة دار السلام، الرباط، 1997.
[6] ماكس فيبر، "العلم والسياسة بوصفهما حرفة"، ترجمة: جورج كتورة، المنظمة العربية للترجمة، 2004.
[7] مليكة بد دودة، "فلسفة السياسة عند حنة أرندت"، دار الأمان، الرباط، 2015.

تعليقات

عدد التعليقات : 0