لقد هيئت الحملة الدعائية للجماهير عالم من نسج الخيال وجعلتها ترفض أو تهرب من الواقع الذي تعيشه؛ وأظهرت العواقب التي تنتظر من يناضل أو يفكر في معارضة الدولة التوتاليتارية. كانت حملة دعائية قوية للقوة باستخدام وسائل إرهابية بشتى أنواعها وتهديد كل من سولت له نفسه أن يقف في وجه النظام التوتليتاري؛ الذي جعل من بث الخوف وسيلته المفضلة باعتماده على ثلاثة مبادئ أساسية وهي الإيديولوجيا والدعاية والإرهاب.
كما أن الحملة الدعائية توجه للسكان المحلين أو البلدان المجاورة، ونموذج
الحملة الدعائية خطب هتلر رغبة منه في الحصول
على الدعم واجتذاب الآخرين نحوه، بالإضافة إلى الحملة الدعائية لعب الإرهاب في
النازية دوراً بارزاً، فقد كان هو الآخر مظهراً من مظاهر إبراز القوة، هو ما جعل
الجماهير مولعة بالحملة الدعائية." وكذلك يعول على البروباغندا في غسل العقل
الجمعي الجماهيري وتوجيهه وخداعه، ويسحب النظام معه إلى الحكم أدوات الحركة
كشمولية السيطرة على حياة أفراد الدولة بكل أجزائها وفي كل مجالاتها، وفي ذلك يكون
العنف هو الأداة الضاغطة تحقيقا وإرغاما وإنذاراً".([1]) ليست
الحرب ما جعلت هتلر يقوم بعدة انتهاكات، تقول الفيلسوفة والمنظرة السياسية حنة ارنت : " إذ لم تكن الحرب ما
حمل هتلر على انتهاك كل الاعتبارات الأخلاقية، إنما جعل هتلر يعتبر أن المجازر
الجماعية التي توفرها الحرب هي فرصة لا تعوض من أجل الشروع في برامج من الاغتيالات..".([2])
هتلر معصوم من ارتكاب الخطأ أو ينبغي أن يكون كذلك في نظر الجماهير.
أما مسألة القضاء على اليهود فقد كان يقول ذلك
بشكل علني في إحدى تصريحاته يقول: "إذا نجح رجال المال اليهود... مرة أخرى في
دفع الشعوب إلى حرب عالمية، ستكون النتيجة إبادة العرق اليهودي في أروبا".([3])
هو الأمر ذاته الذي سعى إليه ستالين فقد كان يصف اليهود بالطبقات المحتضرة التي
ينبغي تصفيتها، كانت النظرة إلى اليهودي دونية وكأنه مصدر للشر، ومن بين الأمور
التي روجت لها الحملة الدعائية هو أن الصراع الطبقي جاء نتيجة لجشع رجال أعمال
اليهوديين.
تفادت الحملة الدعائية النازية استخدام شعارات
مثل الملكية أو الديمقراطية لكي لا يكون لهم أي شكل للحكم. في النظام النازي كانت
الدولة كما يرى هتلر ما هي سوى أداة أو
وسيلة لإنقاذ العرق، أما الدولة كما درج في الحملة الدعائية للبلشفيين هي وسيلة في
صراع الطبقات، فالحملة الدعائية النازية جعلت دورها الأساس هو التحذير من سيطرة
اليهود حتى الشعارات صيغت بطريقة سلبت عقول عامة الناس، فقد كان الاعتقاد السائد
بوجود مؤامرة يهودية عالمية؛ أمر لا يمكن الشك فيه أبداً وهو الأمر ذاته الذي مزال
سائداً حتى يومنا هذا.
ليس غرض الحملة الدعائية إقناع الجماهير بقدر
ما تريد تنظيمها، زيادة على أن مكانة هتلر في الحركة النازية ليس لأنه خطيب مفوه، هو الأمر الذي أشارت له آرنت في كتابها حيث قالت: " ومما لا شك فيه أن ما كان
يضمن موقع هتلر في الحركة النازية ليس مواهبه الصارخة في كونه خطيب الجماهير، بل
العكس، إذ تدفع خصومه إلى الإقلال من شأنه باعتباره ديماغوجيا محضا، كما أن ستالين
أدرك كيف يتغلب على أفضل خطيب في الثورة الروسية".([4])
سعت
الحركة التوتاليتارية بكل قواها وأساليبها من خلال حملتها الادعائية إلى تصفية
خصومها بعد تولي الحزب النازي السلطة غيّر
بنية المجتمع الألماني لا على المستوى السياسي فقط؛ بل في شتى الميادين، ولتحقيق
الخير للحركة النازية ارتكب أفظع الجرائم. إن العنف يجعل النازيين يشعرون بالأمان؛
والعنف هو ما يجعل القائد متميزاً ومتفوقاً.
من
بين الملاحظات التي تطرقت لها أرندت هي أن ستالين وهتلر كان لهما اهتمام بالغ
بالتفاصيل: " كان هتلر وستالين كلاهما سيدي التفاصيل، إذ انصرفا، في بداية
حرفتهما إلى قضايا الموظفين في إدارتيهما، حتى إذا انقضت سنوات قليلة لم يبق أي
مسؤول إلا ويدين لهما بموقعه".([5])
ويتحمل القائد التوتاليتاري المسؤولية عن كل فعل أنجزته الحركة أو الجرائم
التي اقترفتها.
وصل الشر في معسكرات الاعتقال والإبادة إلى
كماله حيث السجناء تقطع صلتهم بعالم الأحياء، فالأيام التي قضاها السجناء في
المعسكرات هي أيام الموت، في غياب المعايير الأخلاقية والقانونية، والسياسية... إنها
بمثابة مملكة الأموات المغلقة على حد تعبير ارنت، فالمعسكرات النازية هي جحيم وصل
إلى درجة الكمال في التعذيب. إن غياب ما هو قانوني يدخل في إطار الخطوات التي تؤدي
إلى السيطرة الكلية. لقد كان اعتقال اليهود والمرضى والعاطلين عن العمل، المجرمين، تم الترويج له من قبل الحملة الدعائية على أنه اعتقال حمائي من لدن الشرطة
الوقائية، بمعنى منعهم من القدرة على الفعل والمعارضة. فقد نبهت ارنت لذلك بقولها:
" إن القضاء على حقوق الإنسان، وخنق الشخص القانوني فيه، هما شرطان ضروريان
لاستكمال السيطرة على هذا الأخير".([6])
فقد
كان التعذيب بكل أشكاله السمة المميزة للأجهزة التوتاليتارية، كيف للإنسان أن يبلغ
هذه الدرجة من القسوة؟ بذلك صار الكائن البشري حيوان بشري، فهذا التدمير الذي لحق
الفرد جعله ينقاد إلى غرف الغاز دون أن يقاوم؛ يلقي بنفسه إلى التهلكة دون تمرد. لم
تكن أي انتفاضات ضد التعذيب، انساقت هذه الجماهير صوب الموت راضية لا ترفض لا
تعترض، وهو الأمر الذي أثار غضب وتساءل ونقد أرندت: " وعلى هذا، لا يبقى من
البشر شيء، سوى دمى مريعة ذات أوجه بشرية، تتصرف جميعها على غرار الكلب في
اختبارات بافلوف، إذ تتفاعل جميعها بطريقة متوقعة، تماماً حين تمضي إلى
موتها".([7])
إذن
هذا هو النموذج للمواطن الذي تريده الدولة التوتاليتارية، جعلت منه إنسان عديم
الجدوى في عالم يسبح في اللامعنى، والقضاء على الكرامة
البشرية وهي أعز ما يملك. إن معسكرات الاعتقال هي بطريقة أو أخرى مختبرات تسعى إلى
تغيير جذري للطبيعة البشرية بمعنى الكلمة، عبرت عن ذلك المنظرة السياسية على الشكل
الآتي: " ذلك أنه وحالما يصير المستحيل ممكنا، يغذو المستحيل هو الشر المطلق، العصي على العقاب وعلى المسامحة، الشر الذي لا تقدر على تعليله أحقر حوافز المصلحة
الشخصية، وعقدة الذنب؛ الشر الذي لا يسع الغضب أن يثأر منه، ولا الحب أن يتحمله، ولا الصداقة أن تسامحه".([8]) حيث
" راح الكل يموتون معاً، الفتيّ والعجوز، الضعيف والقوي، المريض
والسليم...ليس كرجال ونساء، كأطفال وبالغين، كصبيان وبنات، كخيّرين وأشرار، كحلوين
وبشعين، بل ينحدرون متساقطين كالبقر، كالأشياء التي ليس لها جسد ولا روح".([9])
النازية
والفاشية من بين مبادئهما في السيطرة الكلية التي استندت عليها؛ هو كما سبق وقلت
صراع الأعراق والطبقات. فأصبحت ذات طابع توتاليتاري، القتل عادي في حق الأعراق
التي ينظر لها بأنها غير جديرة بالحياة، فقد كان الضحايا جراء التعذيب يعترفون
بجرائم ليست لهم أي صلة بها. وهو ما تناولته ارنت حيث قالت: " وبالتالي فإنك
إما أن تكون قد ارتكبت جرائم أو تكون مستدعي من الحزب لكي تؤدي دور القاتل وفي
الحالين تكون صرت عدواً للحزب من الوجهة الموضوعية".([10])
فالحكام التوتاليتاريون يمارسون الإكراه بشتى أنواعه، وقضوا على ملكة الفعل، وجعلت الناس في عزلة ليست لديهم صلة بالعالم.
كان الأشخاص في هذه المعسكرات حشرات يتم القضاء
عليها بدون شفقة أو رأفة، فضحايا مصانع الموت بنظر النازيين ليسوا بشريين، وهي
المعاملة ذاتها التي يتم بها معاملة الفلسطينيين الآن وكأن التاريخ يعيد نفسه
لكن هذه المرة من كان في السابق ضحية أصبح الآن هو الجلاد. يبدو فعلا أن
الإنسان شرير بطبعه وذئب لأخيه الإنسان؛ لقد كانت الأوضاع في العالم المعاصر ليست
بالجيدة أصبح الإنسان عدمياً، متشائماً، عبثياً، فسيادة الشر جعلته إنساناً مهمشا، مقصيا، مشرداً، منعزلاً. سعت التوتاليتارية إلى جعل الإنسان منصاع للهيمنة
الكليانية؛ حيث تم إلغاء الفعل الإنساني والقضاء على الحرية والحصول على ولاء
وطاعة الجماهير مهما كان الثمن. فأما المنظمين لها في غالبيتهم معزولين مجردين من
روابطهم الاجتماعية، لا يشعرون بقيمتهم إلا بالانتماء إلى هذه الحركة أو الحزب.
فالحاكم يحرك الجماهير ككاريكاتورات من أجل حثها على التضحية من أجل النظام
التوتاليتاري، لم يكن الإنسان ذو فعالية فيه، مغتربا، منعدم الرأي والقرار، متوهما.
ولعبت
الحملة الدعائية هذا الدور في جعل الإنسان داخل الدولة التوتاليتارية بليداً، يقوم
بواجباته دون الحصول على حقوقه. فدور الدعاية هو غسل الأدمغة وممارسة الكذب... "ويمكن للمرء أن يقول إن الفاشية أضافت إلى
حد ما تنويعة جديدة على فن الكذب القديم تنويعة الأكثر شيطانية هي الكذب عن طريق
الحقيقة".([11])
ما ميز الاتحاد السوفياتي الستاليني وألمانيا الهتلرية هو التعبئة
الجماهيرية والتخطيط للتفاصيل، رغبة في تأسيس مجتمع جديد وكأن هذا المجتمع ليس فيه
إنسان له كيانه ورأيه وإرادته وحريته ورؤيته السياسية، فهذا الزعيم في شخص ستالين
وهتلر كأنهما يتعاملان مع الإنسان على أساس أنه مادة خام يقوم بتكوينها وإنشاءها
على النحو الذي يروق لهما وإلغاء الآخر وانتزاع السلطة بواسطة العنف.
إن
العنف والإرهاب لا يمكن أن يسود الناس مطلقا؛ إلا في حال كونهم معزولين بعضهم على
بعض، وبالتالي فإن أولى اهتمامات كل الأنظمة الاستبدادية هي إحداث هذه العزلة، لذا
يمكن أن تكون العزلة بدء الإرهاب؛ فهي الأرض الخصبة التي ينمو فيها الإرهاب، ويكون
ثمرتها على الدوام." إذن، ليس للناس المعزولين أية سلطة".([12]) فالتوتاليتاريات
جردت الإنسان من جوهره وقيمته، جعلت منه كادح يعمل لتوفير قوت يومه، حولته إلى
كائن مستهلك؛ وانتحار حريته. لاحظنا كذلك مع النظام التوتاليتاري لا يمكن
الحديث عن مجال سياسي عمومي منفتح على الآخر؛ حيث غياب مفاهيم الحرية
والديمقراطية والتعددية والحوار. كانت هذه الأنظمة تحمل بذور فشلها منذ
نشأتها، فلا يمكن أن يظل الإنسان خلف ستار العنف والخوف والرعب، بل لابد من
تسرب نسائم الحرية والأمل والانعتاق من سيطرة القائد والإيديولوجيا والوعي الزائف.
قضت الأنظمة الكليانية على إمكانية قيام مجال عمومي حقيقي تسود فيه المساواة
والحرية.
الحملة الدعائية في عصرنا الحالي خاصة مع الذكاء الإصطناعي
إذن إن الحملة الدعائية الإعلانية تقوم بتزييف الوعي، كثيراً ما يتم نشر أمور تافهة وتسليط الضوء عليها من أجل انشغال الناس بها عوض التركيز على القضايا المهمة التي من شأنها أن تقوم بتغيير جذري وتعود بالنفع على المجتمع؛ من خلال تكوين رأي مجتمعي حولها والبحث عن الحلول.
"
ولعل أبرز من وظفوا واستثمروا وسائل الإعلام في تزييف الوعي هو جوزيف غوبلز (1897
1945) وزير الدعاية السياسية في عهد هتلر
(1933 1945) وصاحب شعار ’ اكذب، اكذب، حتى يصدقك الناس‘".([13])
يتم إنفاق أموال ضخمة من أجل تزييف الوعي وتمرير مغالطات في كافة المجالات
من كثرة ترويج أمور لا أساس لها من الصحة في مختلف الوسائل والوسائط تصبح وكأنها
حقيقة. " ومن الطرائف التي تساهم في قوة التأثير الإعلامي ما يعرف بالتأثير
الكمي من خلال التكرار، وهو ما عبر عنه قائد الثورة البلشفية فلاديمير لينين (
1870ـ 1924) ’ تصبح الكذبة حقيقية إذا تم تكرارها بما يكفي‘".([14])
ونشر الإشاعات من أجل خدمة مصالح جهات معينة وبالتالي عدم حيادية الإعلام، حيث أضحى وسيلة لتزييف الوعي والتلاعب بالعقول عوض أن يكون نقطة الضوء التي تنير
عقول الجماهير وتحرير وعييهم وكشف الحقائق لهم وفضح الظلم والاستغلال.
لقد
كانت البروباغندا التوتاليتارية تغطي وتنكر الجرائم المقترفة حيث: "
تمايز أكاذيب البروباغندا التوتاليتارية عن الأكاذيب المعتادة لدى الأنظمة غير
التوتاليتارية في أوقات الطوارئ بإنكارها المتواصل للوقائع بصورة عامة. فكل
الوقائع قابلة للتبديل وكل الأكاذيب يمكن أن تكون حقيقة".([15])
للآسف في عصرنا الحالي نلاحظ بأن وسائل الإعلام ما هي إلا أبواق تخدم أجندات
معينة؛ وتنجح في إلهاء الناس بتوافه الأمور وحجب المشاكل والقضايا الكبرى...
الآن مع تطور الذكاء الاصطناعي؛ ذكاء وغباء في آن، في حرب إسرائيل وفلسطين تم اللجوء إلى الذكاء الاصطناعي من أجل دعم أحد الطرفين، على سبيل المثال لا الحصر تم نشر صورة وقيل بأنها لطفل إسرائيلي حرقته حماس ليتم فيما بعد التوصل إلى أنها من إنتاج الغباء الاصطناعي. تطمس الوسائط والوسائل الدعائية الإعلانية وعي الإنسان على المستوى السياسي عوض أن تنمي الثقافة السياسية للأفراد تنشر الأكاذيب والمغالطات." يعتبر كانط أن كل تسامح مع الكذب يعني استحالة الوعد. الكذب شبيه بخيانة الوعد؛ وعد الحقيقة، الواجب عليّ".([16])
لذلك ينبغي أن تلعب الحملات الدعائية الإعلانية دورا ذا أهمية في تشكيل
الرأي العام وتنويره؛ لأنها صلة وصل بين النخب السياسية والجماهير فهي تنقل
المعلومات وردود الأفعال وبالتالي تسهم في صنع القرار السياسي. يقول الدكتور توفيق رشد: " لا يجوز أن نعتبر هذا الانفجار التكنولوجي واكتساح التقنية
والعلم مجرد نقلٍ بريء وحيّادي لاستراتيجيات التنمية، ولأفكار ومذاهب نقبلها أو
نرفضها... إنه قدر هذا العصر، لا يستطيع أحد اختياره، كما لا يستطيع رفضه، ولكن
يمكن على الأقل تسليط بعض الوعي حتى لا يظل العصر وحده يسكننا بأوهامه ومعاييره، كما يشاء، بل نحاول نحن أن نسكن فيه على طريقتنا".([17])