الشر في الفكر الفلسفي والسياسي: بين الطابع الفردي والأنظمة الشمولية
شهد العالم خلال الحرب العالمية الثانية بروز اهتمام متزايد بمفهوم الشر، الذي يعبر عن الفظائع التي رافقت تلك الحقبة مثل الإبادة الجماعية، الهجمات الإرهابية، القتل، التعذيب، والحرق. هذه الأفعال تتجاوز كونها مجرد خاطئة أو سيئة، إذ نحتاج إلى مفهوم "الشر" لتوصيف ثقل هذه الجرائم. فالشر يمثل معيارًا لتقييم السلوك الإنساني في مقابل الخير، حيث تتسم العلاقة بينهما بطبيعة جدلية.
مفهوم الشر في الفلسفة: بين الحرية والمسؤولية
الشر مفهوم واسع يشمل كل
ممارسة تنتهك إنسانية الإنسان وتلحق الأذى بالآخرين. تعرف الفيلسوفة الأمريكية
كلوديا كارد (Claudia Card) الشر
بأنه "ضرر جسيم لا يمكن تحمله" ينتج عن أخطاء لا تُغتفر، ما يجعل هذا
المفهوم واضحًا وشاملاً. وترفض كارد فكرة أن الإنسان شرير بطبعه كما قال الفيلسوف
هوبز، بل تعتبر الشر فعلاً مكتسبًا ناتجًا عن الظروف الاجتماعية.
ترى كارد أن الإنسان يولد
حرًا، ثم يختار بإرادته ما إذا كان سيتصرف بخير أو بشر تبعًا للظروف التي يعيش
فيها. كما تحدد بعض السمات الأساسية للشر: أولًا، أنه خطأ لا يُغتفر؛ ثانيًا، يسبب
ضررًا لا يمكن تحمله؛ وأخيرًا، أنه فعل مقصود يحمل صاحبه المسؤولية.
حنة أرندت والشر السياسي: من الأخلاقي إلى السياسي
الفيلسوفة الألمانية حنة
أرندت قدمت رؤية جديدة لمفهوم الشر، معتبرةً أن الشر السياسي مرتبط بالأنظمة
الشمولية. هذه الأنظمة لا تبرر الشر على أساس أخلاقي أو ميتافيزيقي، بل تبرره
سياسيًا، حيث تحمّل أرندت الأنظمة الكليانية مسؤولية إنتاج الشر من خلال سيطرتها
على الأفراد وتحويلهم إلى أدوات طائعة غير قادرة على التفكير المستقل. فالشر، كما
تراه أرندت، ليس وليد إرادة فردية، بل نتيجة لسيطرة السلطة السياسية عبر وسائل
الإعلام والدعاية التي تجعل الأفراد مجرد منفذين لإرادة الزعيم.
تفاهة الشر: أيخمان نموذجًا
أرندت وصفت الشر بالتافه،
حيث أن الأفراد المنخرطين في أفعال شريرة، مثل أدولف أيخمان، لا يدركون حقيقة
فظاعة أفعالهم ولا يشعرون بالمسؤولية تجاهها. أيخمان، الذي كان ضابطًا نازيًا
مسؤولاً عن الترتيبات اللوجستية في معسكرات الاعتقال، نفذ "الحل
النهائي" بتوجيه من هتلر دون أن يشعر بأي ندم. في محاكمته عام 1961، قدم
أيخمان نفسه كأداة طيعة للنظام، مدعيًا أنه لم يقتل أي شخص بيده وأنه كان ينفذ
الأوامر فقط، حتى لو كان الأمر يتعلق بإرسال والده للموت.
غياب المسؤولية والتفكير في الأنظمة الشمولية
اعتبرت أرندت أن ما يجعل
الشر تافهًا هو غياب الضمير والمسؤولية لدى الأفراد الذين يقترفون جرائم ضد
الإنسانية. فالشر في الأنظمة الشمولية لا ينبع من الفرد ذاته، بل من البيروقراطية
التي تجعل الأفراد منفذين أوتوماتيكيين للأوامر. أيخمان كان مثالًا حيًا لهذا
النوع من الشر، حيث أدى دوره كمنظم لإبادة الملايين دون وعي بحجم الجريمة. ورغم
فظاعة ما فعله، رآه علماء النفس شخصًا عاديًا وغير مهووس بالقتل، بل إنه اعتبر
نفسه مجرد مواطن يحترم القانون ويقوم بواجبه.
الشر بين القانون الأخلاقي والطاعة العمياء
بالنسبة لإيمانويل كانط،
الشر يتجسد في انتهاك القانون الأخلاقي، لكن في ظل الأنظمة الكليانية، أصبح الشر
مرتبطًا بتنفيذ الأوامر القانونية دون تفكير. أيخمان مثل حالة نموذجية للطاعة
العمياء التي تبرر كل شيء تحت غطاء النظام والقانون، ما يجعل الشر حالة من القصور
في التفكير والإنسانية.
خاتمة: تفاهة الشر وتحولاته في الأنظمة الشمولية
يمثل مفهوم "تفاهة الشر" الذي قدمته حنة أرندت إحدى أبرز الأفكار في فهم الشر في السياق السياسي الحديث. فالشر لا يرتبط دائمًا بالنية السيئة أو الانحراف النفسي، بل يمكن أن يكون نتيجة لتنفيذ أوامر بيروقراطية في ظل نظام شمولي يفقد فيه الفرد قدرته على التفكير المستقل. تتجلى هذه الفكرة بشكل واضح في حالة أيخمان، الذي نفذ جرائم مروعة دون إدراك أو تحمل للمسؤولية.