إذا كانت السياسة مشروطة
بالديمقراطية، والتعددية لا يمكن أنبثاقها إلا وسط مجال عمومي يضمن الحق في الاختلاف
وحرية التعبير عن الرأي بكل حرية، فبإمكاننا أن نعتبر الحرية مركز هذا الثالوث:
السياسة والمجال العمومي وأخيرًا التعددية. لقد اعتُبرت الحرية في التقليد اليوناني
شرطًا أساسيًا لولوج المجال العمومي وممارسة الفعل السياسي؛ فالمجال العمومي لم
يكن يعرف إلا الأحرار، بعكس المجال الخاص الذي كان مركزًا للامساواة وممارسة القهر
والإقصاء.
لقد كانت السياسة على الدوام التربة الخصبة
التي نمت فيها الحرية وتطورت. فالأثينيون يعتبرون أن يكون المرء حرًّا ومواطناً
وفاعلاً سياسيًا نفس الشيء، في تماهٍ مطلق. وهنا نتحدث عن الحرية السياسية، لا
الحرية الفلسفية الداخلية؛ إذ من دونها لا يغدو للحياة السياسية معنى. وكما تقول
آرنت: "لأن الإنسان بداية، الإنسان يستطيع أن يبدأ؛ أن تكون إنسانًا وأن تكون
حرًّا هما الشيء نفسه. فالله خلق الإنسان من أجل أن يُحضر داخل العالم قدرة
البداية: الحرية"([1]).
يمكن أن نميز بين الحرية الفلسفية والحرية
السياسية؛ فالفكر الفلسفي يربط الحرية بالإرادة، حرية الاختيار وحرية التفكير.
الاختلاف الموجود بين التصور الفلسفي والتصور السياسي للحرية هو أن الأول يجعل
الحرية فردية، مرتبطة بسيادة الفرد على أفعاله؛ "هو يريد، إذن هو حر".
أما الحرية في التصور الثاني فهي منفتحة على الآخرين، إذ تنتقل الحرية من شعور
داخلي للذات إلى فعل يكون فيه الكائن البشري فاعلاً، متحاوراً، متفاعلاً مع
الآخرين. فالسياسة هي ميدان الحرية، والفعل هو أداتها. ولكن كما تشير أرندت، الحياة
تجمع بين حياة تأملية وأخرى نشطة، ولا يمكن للإنسان تفادي الانخراط في الحياة
النشطة"([2]).
لقد حركت محاكمة آيخمان تفكير حنة أرندت، إذ
ارتكب آيخمان أبشع الجرائم باسم احترام القانون، ضاربًا بذلك الإنسانية عرض
الحائط. ترى أرندت أن هذا المأزق يعبر عن تناقض بين قيم الفلسفة التي تحمل بُعدًا
إنسانيًا وقيم السياسة عندما تكون مسيّسة ضد الإنسانية. وتوضح آرنت: "من جهة،
أنتقد الفلسفة لأنها لا تهتم بالناس (التعدد)، ومن جهة أخرى أريد من السياسة أن
تهتم بالإنسانية جمعاء"(ل[3]).
ترتبط الحرية عند آرنت بمفاهيم مثل الفعل،
التعددية، والمجال العمومي. إذ تقول: "ما هو حاسم بالنسبة لهذه الحرية
السياسية هو أنها مرتبطة بفضاء ما" ([4]). وتؤكد أن الأنظمة الشمولية لم
تكتفِ بوضع حد لحرية التعبير، بل ذهبت أبعد من ذلك، إلى نفي تلقائية الإنسان في كل
المجالات. وهكذا، تنتقد آرنت التصور الليبرالي الذي ينظر إلى الحرية كظاهرة
هامشية، مؤكدة أن الحرية تبدأ من الفعل الجماعي والتعددية"([5]).
الحرية وتجربة المجال
العمومي
تربط آرنت الحرية بالمجال العمومي، وهو فضاء
التعددية الذي يسمح للناس بالظهور أمام بعضهم البعض ككائنات مستقلة ومتميزة. تميز
آرنت بين المجال العمومي والمجال الخاص، حيث المجال العمومي هو فضاء المشترك،
بينما الخاص يمثل الانعزال والتقوقع. في المجال العمومي، تُمارَس الحرية من خلال
الحوار والنقاش والتفاوض حول المصالح المشتركة، ما يجعله فضاءً سياسيًا بامتياز"([6]).
وترى آرنت أن الفعل الحر يتحقق في لحظة
الانخراط في الشأن العام، مؤكدة أن هذا الانخراط لا ينفصل عن المسؤولية؛ إذ تُعبّر
الحرية عن نفسها في القدرة على اتخاذ قرارات جديدة وصنع بدايات جديدة. لذلك تقول: "أن
تبدأ جديدًا هو صفة كل كائن بشري... وإلى هذا الحد، تكون الحرية هي نفسها جوهر
الإنسان"([7]).
يبرز المجال العمومي كضرورة للحفاظ على
الحرية وممارستها. فهو ليس مجرد مكان للنقاش السياسي، بل مساحة يلتقي فيها
الأفراد، بعيدًا عن هيمنة الدولة أو السوق، ما يتيح لهم التعبير عن هوياتهم
وقضاياهم. تقول آرنت: "أن تكون حرًا هو أن تكون عضوًا في فضاء يضمن الحضور
المشترك للناس، حيث يمكن للأفعال أن تُبصر النور"([8]).
نقد الحرية في الفضاء
الليبرالي الحديث
تنتقد آرنت التحولات التي طرأت على الفضاء
العمومي في المجتمعات الليبرالية الحديثة، حيث أضحت الحرية في كثير من الأحيان
تُختزل إلى حرية اقتصادية أو فردية بحتة، دون اعتبار للبعد الجماعي والمشاركة
الفعلية. في هذا السياق، تؤكد أن المجتمعات الحديثة جعلت السياسة وسيلة لتحقيق
أهداف اقتصادية، مما أدى إلى تهميش الفعل الحر لصالح الضرورات الاقتصادية"([9]).
كما تشير آرنت إلى أن التكنولوجيا ووسائل
الإعلام لعبت دورًا مزدوجًا؛ فمن جهة ساهمت في توسيع نطاق الحوار العام، ومن جهة
أخرى أفرزت ظاهرة "الانعزال داخل الجماعة"، حيث أصبح الأفراد ينغمسون في
فقاعات فكرية مغلقة، ما يُضعف روح التعددية"([10]).
لذلك، ترى آرنت أن الحرية السياسية تتطلب
فضاءً عامًا حيًّا، يتيح للناس الظهور والنقاش والحوار بشكل مباشر. فهي تقول:
"الحرية الحقيقية لا تتحقق إلا في العمل المشترك وفي ظهور الناس أمام بعضهم
البعض كمتساوين ومختلفين"([11]).
الأنظمة الشمولية وإلغاء
الحرية
تتناول آرنت الأنظمة الشمولية كنقيض مطلق
للحرية. فقد اعتبرت أن هذه الأنظمة تسعى إلى إلغاء المجال العمومي تمامًا، حيث
يُفرض على الأفراد العزلة والصمت والخوف. في الأنظمة الشمولية، يتم سحق الفردية
والتعددية باسم الأيديولوجيا، ويُستبدل الفعل الحر بالطاعة العمياء"([12]).
تضيف آرنت أن الشمولية لا تقف عند إلغاء
الحرية السياسية، بل تذهب إلى نفي إنسانية الإنسان. فالمعتقلات والنظم القمعية
تُعتبر أدوات لتدمير كينونة الإنسان، حيث يصبح الفرد مجرد أداة في يد النظام
([13]). تقول: "الأنظمة الشمولية لا تستهدف السيطرة على الناس فقط، بل تهدف
إلى القضاء على قدرتهم على الفعل".
ختامًا، أكدت المقالة أن
الحرية ليست وضعًا يُعطى، بل هي ممارسة مستمرة تتطلب فضاءً عامًا حيًا، يُعبَّر
فيه عن التعددية والحوار. ورأت أن الحفاظ على هذا الفضاء يُعد تحديًا أساسيًا في
مواجهة النزعات الفردية والشمولية التي تهدد الحرية في العالم الحديث.
المراجع:
([1])الفعل السياسي
بوصفه ثورة, دراسات في جدل السلطة والعنف عند حنّه آرنت, مجموعة مؤلفين, إشراف
وتنسيق: د. علي عبود المحمداوي, تقديم: د. محمد شوقي الزين, دار الفارابي, بيروت,
ط1, 2013, ص 563ـ 562.
([2])مليكة بد دودة, فلسفة
السياسة عند حنّة أرندت, دار الأمان, الرباط, ط1, 2015, ص 160.
([3])حنة أرندت, ما
السياسة؟, ترجمة وتحقيق, الدكتور زهير الخويلدي, أ. سلمى بالحاج مبروك, دار الأمان
الرباط, ص 38.
([4])حنة أرندت, ما السياسة؟, ترجمة وتحقيق, الدكتور زهير الخويلدي,
أ. سلمى بالحاج مبروك, دار الأمان الرباط, ص 95.
([5])الفعل السياسي بوصفه ثورة,
دراسات في جدل السلطة والعنف عند حنّه آرنت, مجموعة مؤلفين, إشراف وتنسيق: د. علي
عبود المحمداوي, تقديم: د. محمد شوقي الزين, دار الفارابي, بيروت, ط1, 2013, ص
598.
([6])مونتسكيو, من
كتاب: حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس, ترجمة: محمد الهلالي, منشورات اختلاف,
الرباط, ص: 39ـ40.
([7])حنة أرندت, بين الماضي والمستقبل, (ستة بحوث في الفكر
السياسي)؛ ترجمة, عبد الرحمان بشناق, مراجعة, زكريا إبراهيم, تصدير وتدقيق, هادية
العرقي, جداول للنشر والترجمة والتوزيع, ط1, ص202.
([8])اسبينوزا,
رسالة في اللاهوت والسياسة, ترجمة وتقديم: د. حسن حنفي, مراجعة, د. فؤاد زكريا,
دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع, ط1, 2005, بيروت, ص437.
([9])حنة أرندت,
بين الماضي والمستقبل, (ستة بحوث في الفكر السياسي)؛ ترجمة, عبد الرحمان بشناق,
مراجعة, زكريا إبراهيم, تصدير وتدقيق, هادية العرقي, جداول للنشر والترجمة
والتوزيع, ط1, ص 209.
([10])حنة أرندت,
ما تعنيه الحرية والثورة حقيقة؛ ترجمة: محمد معاذ شهبان, مؤمنون بلا حدود للدراسات
والأبحاث, ص 17.
([11]) نبيل فازيو, الفعل, والصفح, وأزمة عالم متصحر, مؤمنون بلا
حدود للدراسات والأبحاث 6. حنة ارندت, حياة العقل؛ الجزء الثاني: الإرادة ,ترجمة,
أ. نادرة السنوسي, ابن النديم للنشر والتوزيع, دار الروافد الثقافية, ناشرون,ص235.
([12]) الفعل بوصفه ثورة,
ص 342.
([13])الفعل بوصفه ثورة,
ص 342