إن مفهوم العنف يضايف مع مفاهيم متعددة والتي لا بد من التمييز بينها من ذلك السلطة، القدرة، القوة، السيطرة، العنف، الثورة.. فهي تختلف وتتمايز، فالأمر لا يتعلق بالقواعد بل قضية منظور تاريخي، وغالبا تعتبر مترادفات لأنها تؤدي الوظيفة ذاتها، فهي كلمات تعبر عن الوسائل التي يسيطر بها الإنسان ويحكم بها على الإنسان. ولتجاوز كل التباس، وبالتالي نميز بين تلك المفاهيم على النحو التالي:
أ : العنف والسلطة
من
بين الاختلافات الموجودة بين السلطة والعنف هو أن السلطة تركز على العدد، بينما
العنف يركز على الأدوات، أدوات القمع؛ فالفيلسوفة والمنظرة السياسية حنة أرندت ترى أن شكل السلطة المتطرف هو
الذي يمكن التعبير عنه بشعار:" الجميع ضد الواحد" لأن فعلها مرتبط
بالعدد أما العنف فيكون الشكل الأكثر تطرفا عندما يعبر عنه بشعار" الواحد ضد
الجميع". حيث يستحيل أن يكون العنف من دون أدوات القمع. عندما نتحدث عن وسائل قمعية يعني هنا غياب السلطة وبالتالي يحضر
العنف بقوة، والدولة التي تفرض نفسها بواسطة العنف فهي تفقد كل شيء.
قد نقول من الناحية السياسية أن السلطة والعنف
ليسا الشيء نفسه، فهما متعارضان، عندما يحكم أحدهما بشكل مطلق فأكيد الآخر يكون
غائبا، والعنف يظهر عندما تصبح السلطة مهددة؛ كما أنه يعجز عن خلق
السلطة وبإمكانه تدميرها. تحتل السلطة في فكر أرندت
مكانة جوهرية، لأن العنف والسلطة متضادان رغم أن الأول يحاول أن يحصل على الشرعية
وأن يبرر، إلا أنه وفق أرندت لن يحوز على هذه الشرعية. "حين يتكلم أحدهما
بصورة مطلقة يغيب الآخر ويظهر العنف عندما تكون السلطة في حال من الشلل،... حيث
يمكن للعنف أن يدمر السلطة، لكن لا يمكنه بتاتا أن يخلقها".([1]) تعني
بالسلطة قدرة الإنسان ليس فقط على الفعل، كما أنها ليست خاصية فردية، بل تعود إلى
المجموعة، وتظل موجودة طالما ظلت المجموعة ملتحمة. عندما نقول عن شخص إنه في
السلطة فإننا نشير حقيقة إلا أنه قد مُنح السلطة من قِبل عدد من الناس لكي يفعل باسمهم.
حسب آرندت تتطلب السلطة العدد، فبدون الشعب أو الجماعة لا يمكن الحديث عن
السلطة.
العنف
والسلطة دائما يظهران معا، فالسلطة تظهر بشكل بارز في المجتمع الذي يسوده القانون
في حين تلجأ الديكتاتوريات إلى العنف كأداة للسيطرة، بل يصير العنف إرهابا نتيجة للوسائل
الوحشية المستخدمة ضد أعداء الطاغية بل كذلك ضد أصدقائه ومؤيديه. ترى مؤلفة كتاب
"في العنف" بأن العنف هو نقيض السلطة وإذا حدث تصادم بينهما فالنصر يكون
حليف الأول.
يبدو
أن صياغة تحديد دقيق سواء عمليا أو نظريا لمفهوم السلطة يحتاج الكثير من التركيز، وحنة ارندت تتطرق للمفهوم تاريخيا، وتشير في كتابها بين الماضي والمستقبل
خاصة في الفصل المعنون بما هي السلطة؟ إلى أنها أي السلطة ترتبط أشد
الارتباط بالطاعة، فاستعمال القوة يعني أن السلطة تفشل، فالسلطة يعني أن
هناك آمر وآخر مطيع نظام طبقي.
تقول آرنت: " وبما أن السلطة دائما
تستوجب الطاعة، فإن الناس يخلطون بينها وبين القوة أو العنف. إلا أن السلطة تمنع
استخدام الوسائل الخارجية للإكراه، وحيثما تستعمل القوة تكون السلطة ذاتها
أخفقت."([2])
حسب أرندت السلطة ليس لها صلة
بالإقناع، فهي تشكل ضرورة حيث تقول: " فقدان السلطة يشبه فقدان أساس
الدنيا".([3])
إلا أن هذا الأساس عرف مجموعة من التغيرات، هذا التغير لحق كذلك حتى
المفاهيم، وكل واحد ما عليه إلا الالتزام بتعابيره. تشير فيلسوفتنا كذلك إلى الفرق
الذي يوجد بين الطغيان والسلطة، فالطاغية حسبها يحكم طبقا لمشيئته وهواه، إلا أن السلطة أو حكومات التسلط تلتزم بالقوانين هذه القوانين غالبا ترتبط بقوة
خارجية، فالطاغية حكمه يكون ضد الجميع حيث تقول ارنت : " ويبقى الطاغية في
عرف أفلاطون وأرسطو كما الذئب في شكل الإنسان".([4])
إذن
تتأسس السلطة على الطاعة وتستمد شرعيتها من الجماعة التي تنبثق عنها. وفي اللحظة
التي تتوسل بالعنف والإكراه لتحقيق أهدافها ومآربها تفقد مبرر وجودها وتعلن
إخفاقها، وهي لا تحتاج إلى تبرير عكس العنف الذي يحتاج دائما إلى تبرير. فجوهر
الحكومة هو السلطة، كما أنها تبحث عن كل تبرير للعنف الذي هو وسيلتها المفضلة. فممارسة السلطة ليست بحاجة إلى تبرير
بقدر ما هي تحتاج إلى المشروعية، أما العنف يمكن تبريره إلا أنه لا يحظى
بالمشروعية.
إذن السلطة والعنف غالبا ما يظهران معا، وهذا الارتباط بينهما في فهم الحكومة هو سيطرة الإنسان على الإنسان بواسطة العنف، فالعنف ليس بحاجة إلى عدد بل إلى أدوات تساعد على مضاعفة القدرة البشرية. فالآلات
لها فعالية تدميرية لا إنسانية، إلا أن العنف بإمكانه تدمير السلطة لكن السلطة لا
يمكنها أن تنبع من فوهة البندقية. تقول أرندت: " فضلا عن ذلك، فإن تدمير
العالم وإبادة الحياة الإنسانية بوسائل العنف لا هي بالجديدة ولا هي بالمرعبة، ومن
كانوا دوما مع وجهة نظر أن إدانة العنف، ستؤدي في نهاية المطاف إلى إدانة السياسي
بصفة عامة".([5]) فالحكم
بواسطة العنف هو لعب بعد فقدان السلطة، فحلول العنف محل السلطة يحقق النصر إلا أن
الثمن يكون مرتفع، ومن يسدد هذا الثمن ليس المهزوم فقط بل حتى الطرف المنتصر.
عندما تفقد السلطة يصبح العنف أكثر إغراء، فالعنف الذي لا يدعم من قبل السلطة يعني
أننا أمام انقلاب ثوري، أمام نضال سياسي... فالعنف والسلطة ينتميان إلى مجال السياسة
الذي يهيمن على قضايا البشر. وكانت هناك مجموعة من الدوافع وراء تمجيد العنف. كما أن الانحطاط الذي يصيب
السلطة فهو دعوة لممارسة العنف، ولا يمكن مقاومة الإغراء و الرغبة الجامحة في
إحلاله محل السلطة، بل هناك من يرى ويتحدث عن العنف كقوة توحيدية ودمج في المجتمع.
إذن
ما يمكن الاحتفاظ به أو استنتاجه من خلال ما قيل أعلاه هو أن العنف أدواتي يحضر
حينما تغيب السلطة، إلا أن السلطة التي تهتم بآراء الآخرين، تؤمن بالحوار
والنقاش والاختلاف واعتماد الحجاج في الفضاء العام يعني أنها ليست بحاجة إلى العنف؛ لأن الحلول سيكون متفق عليها.
ب: الحرب والثورة
يعتبر كتاب " في الثورة " الذي نشر عام 1963، من أهم الكتب التي
قامت حنة أرندت بتأليفها فقد تطرقت للثورة بشكل عام وفي خضم حديثها عن الثورة
تطرقت للثورة الفرنسية والأمريكية وذكرت الفرق بينهما. إن هدف السياسة حسب أرندت قريب
نوعا ما من غاية الثورة أي: "قضية الحرية إزاء الاستبداد".([6]) فالحرية هي مطلب الجميع والحرب تندلع من
أجلها، فالمشترك بين الثورة والحرب هو العنف. وبالتالي الثورة الهدف منها
هو ضمان الحقوق المدنية والوقوف بوجه الحكومات الاستبدادية؛ كما أن شرارة
الثورة الأولى هي العنف وفق أرندت؛ إلا أنه لا يمكن وصف الثورة
بالعنف ولكن بالتغيير الذي يحدث هو الذي نصف به الثورة, هذا التغيير
الذي يحدث بداية جديدة؛ التغيير يعني الإتيان بالجديد.
كثيرا ما كان يتم وصف الثورة بالتمرد
والعصيان، إلا أن أرندت ميزت بين الانقلابات والثورة الحقيقية، فالثورة هي
بداية جديدة وهذا الجديد في الثورة الفرنسية والأمريكية هو ظهور
الحرية؛ إن قيام الثورة يكون من أجل الحرية فتندلع الحرب من أجل الحصول على
الحرية السياسية. من البديهي أن نهاية الحرب هي السلام أو النصر، والتاريخ قد سجل
أن الحروب كانت مدتها أطول من السلام. فلكل حكومة أهداف قد حددت مسبقا، حيث لها سياستها
الخاصة وتستخدم جميع الوسائل الممكنة للوصول لهذه الأهداف وطبعا السلطة غايتها
الأساسية.
فحنة آرنت ترى بأن
العنف هو الفعل الأول: " العنف كان البداية، وعلى هذه الشاكلة فما من بداية
يمكن إحداثها من دون استخدام العنف".([7]) إن الثورة عند أرندت تعبر عن قدرة
الأفراد على البدء من جديد ويدخل البشر من خلال الكلام والفعل إلى العالم بخلق
فضاء عام حي. لعب العنف دوراً مهما في إحداث
تغييرات، وهو شرارة اندلاع الثورة حيث تقول آرنت :" ولكن العنف لا يكفي لوصف
ظاهرة الثورة، وإنما التغيير هو الوصف الأجدر بها، ولا يمكننا الحديث عن الثورة
إلا حين يحدث التغيير ويكون بمعنى بداية جديدة، وحين يستخدم العنف لتكوين شكل
مختلف للحكومة لتأليف كيان سياسي جديد، وحين يهدف التحرر من الاضطهاد إلى تكوين
الحرية".([8])
كثيرا ما يربط المفكرين أول ظهور لمفهوم الثورة بمجال العلوم الفلكية. قارنت أرندت بين الثورة الفرنسية والثورة
الأمريكية وتوصلت إلى ما يلي: " الثورة في فرنسا كانت مجرد تحرير اقتصادي
نتيجة للظرفية، بحيث كان هذا التحرير باحثا عن حل للمسألة الاجتماعية، أما في
الولايات المتحدة الأمريكية فإن الثورة قد وضعت نصب عينيها مسألة السعادة العامة
ومسألة الحرية السياسية".([9])
إن الحروب والثورات هي التي حددت ملامح القرن العشرين، باعتبارهما قضيتين
سياسيتين، حيث تقول أرندت في كتابها ما السياسة؟ ما يلي: "توضع الثورة والحرب
تحت علامة العنف المشترك. إذا كانت التجارب الأساسية لعصرنا تجارب حروب وثورات، فهذا يعني أننا نتحرك في حقل العنف".([10])
كانت
آرنت معجبة بالإرث اليوناني القديم، فدولة المدينة اليونانية قائمة على الإقناع
لا الإكراه والعنف؛ فحتى الإعدام كان عن طريق تجرع كأس السم، حتى
لا يشعر المواطن الأثيني بالعنف الجسدي.
كما أن آرنت ترى بأن الحروب يليق بها تبرير صد العدوان وهذه الفكرة اكتست أهمية
بعد الحرب العالمية الأولى لأنها كانت حرب تدميرية حيث توفرت لها الشروط التقنية
الحديثة.
فالحرب رفيقة الإنسان، فهي قديمة قدم الإنسان
نفسه، أما الثورات فهي حديثة، تقول ارنت في كتابها رأي في الثورات ما يلي: "
فالحروب من وجهة النظر التاريخية، من اقدم الظواهر الطبيعية في التاريخ المدون، في
حين لم تكن الثورات، إذا شئنا الدقة في التعبير، موجودة قبل بداية العصر الحديث، ولذا فإنها تعتبر من أحدث الحقائق السياسية الرئيسية".([11])
حسب
آرنت لا بد من التمييز سواء على المستوى النظري أو العملي بين الحرب والثورة، كما أن الثورات
والحروب هما داخل ميدان العنف، فالعنف قاسم مشترك بينهما، ترى أيضا بأن العنف سائد
بشكل مطلق ومثال ذلك معسكرات الاعتقال في الأنظمة الشمولية. وحنة أرندت تعتبر بأنه
لم يكن مكيافيللي الأب الروحي لعلم السياسة أو النظرية السياسية أي لم يكن
من الممكن التأكيد على ذلك، ولكن يمكن اعتباره أبا للثورة. حيث تقول:
" ولكن من الصعب الإنكار بأن المرء قد يرى فيه أبا روحيا للثورة".([12])
فمكيافيللي يعطي أهمية للعنف ودوره الفعّال في
ميدان السياسة، ومهمة الثورة هي الوصول إلى سلطة مطلقة تحل محل السلطة الإلهية
المطلقة إلا أن آرنت ترى: " القوانين التي تستند إلى سلطة بشرية لا يمكنها أن
تكون أبداً مطلقة".([13])
وإصرار مكيافيللي على أهمية العنف ودوره في السياسة يرجع إلى رغبته في
العثور على صفات أناس تضاهي الصفات التي نصف بها الذات الإلهية.
استخدمت الثورة كمصطلح سياسي عام 1688، بعدما
انتقلت السلطة الملكية إلى وليام وماري وطردت أسرة ستيوارت، فهي (الثورة) تعني
إعادة السلطة، وتقول آرنت:" إن ثورات القرنين السابع عشر والثامن عشر، والتي
تبدو لنا ذات روح جديدة، روح العصر الحديث، إنما كانت ترمي إلى عمليات إعادة
السلطة إلى أصحابها السابقين".([14]) كما
أن تجربة الحرية هي ما كشفت عنه الثورات، حيث تقول آرنت: " لن يكون من حقنا
الحديث عن الثورة إلا إذا كانت الجدة مرتبطة بفكرة الحرية".([15])
إذن الحديث عن الثورة لا يكون إلا بالحديث عن التغيير والرغبة الجامحة في
تحقيق الحرية. نستنتج من خلال ما قيل أعلاه بأن الهدف من وراء الثورة حسب
أرندت هو طلب السعادة والسعي لتحقيق الحرية، وقد أظهرت ذلك أرندت في كتابها في
الثورة. أما أسباب الثورة فإنها تتجلى في البؤس الاجتماعي والفقر، هذا الأخير الذي
كان في الثورة الفرنسية ظاهرة سياسية ليست بالطبيعية، لأن الفقر كما رأى ماركس هو
نتيجة الاستغلال وبذلك يقحم ماركس الاقتصاد في السياسة، ليشكل لنا الاقتصاد
السياسي.
ج: العنف والإرهاب
يرى الفيلسوف التونسي فتحي المسكيني في كتابه الهجرة
إلى الإنسانية أن: " أول ظهور لمصطلح ’ الإرهاب‘ هو في القرن الثامن
عشر، وتم تثبيته في المعاجم انطلاقا من سنة 1798، إبّان توصيف الفترة التي خصصتها
الثورة الفرنسية لتصفية كلّ ’ المضادين للثورة‘".([16]) وبالتالي
فمفهوم الإرهاب ليس مصطلح ديني لأنه من اختراع الثورة الفرنسية.
ترى حنة أرندت بأن الهيمنة التوتاليتارية تقوم على الإرهاب وذلك من خلال الاعتماد على
العزل: "إن الإرهاب لا يمكن أن يسود الناس مطلقا، إلا في حال كونهم معزولين
بعضهم عن بعض، وبالتالي فإن أولى اهتمامات كل الأنظمة الاستبدادية هي إحداث هذه
العزلة".([17]) فالإرهاب
ينتعش عندما تقوم الدولة البوليسية التي تنمحي فيها السلطة، ويحل العنف محلها. إن
الإرهاب آلية من آليات النظام الشمولي به يقضي على الحرية وعلى ملكة الاختيار
والتفكير، جاعلاً الأفراد متقوقعون على ذواتهم معزولين مقفرين في الحياة
الاجتماعية، عاجزين عن الفعل. " الإرهاب هو الأعمال التي من طبيعتها أن
تُثير لدى شخص ما الإحساس بالخوف من خطر بأي صورة؛ والإرهاب يكمن في تخويف الناس
بمساعدة أعمال العنف؛ والإرهاب هو الاستعمال العمدي والمنتظم لوسائل من طبيعتها
إثارة الرعب بقصد تحقيق أهداف معينة".([18])
فإيديولوجيا
العنف أخطر من العنف، فحنة أرندت لم تسع
إلى التمييز بين العنف والإرهاب، لأن العنف الذي مارسته الأنظمة الاستبدادية هو
فعل إرهابي، فالإرهاب تكون الدولة متورطة فيه أيضا فهو ممارسة ممنهجة وآثاره أكثر
عمق من العنف. الأنظمة الكليانية ترهب كل من يفكرون في مقاومتها؛ وترتكب
مجموعة من الانتهاكات بحجة تحقيق المصلحة العامة، فترتكب أبشع الجرائم التي تخفيها
الشعارات النبيلة.
يقول
فتحي المسكيني: " إن الإرهابي الوحيد والعدميّ الوحيد في كل مكان هو الإنسان
وليس العقائد أو الأفكار، إن تحرير الإنسان من خوفه مهما كان موضوع هذا الخوف هو
الطريق الوحيد لتحرره من العدميين والإرهابين، أي من حاجته ’ البريئة‘ إلى
القتل".([19])
تؤكد أرندت على مسألة مهمة وهي أننا: "
بتدمير العالم، لا ندمر شيئا آخر سوى ما كان قد أنتجته يد الإنسان، والعنف الذي
يتضمن هذا التدمير يتوافق في كل نقطة مع العنف الجوهري اللامشروط لكل مسارات
الإنتاج الإنساني".([20]) في
العالم الحديث كان نمو عظيم في الإنتاجية على مستوى التطور التكنولوجي وهذا
التزايد في الإنتاجية لا يرجع إلى العمال أو الطبقة البورجوازية وإنما السبب هم
أهل العلم، وبالتالي أصبح العنف وفق أرندت يتميز
بالطابع الأداتي، فأدوات العنف تساعد على السيطرة والهيمنة. كما أن هناك فرق شاسع
بين الأدوات التي تملكها الدولة وأخرى يمتلكها الشعب أو إن صح التعبير يجهزها
بنفسه، يواجه العنف بالعنف لكن الغلبة أكيد للحكومات فهي تحرز تفوقا في هذا المجال، وطبعا هو تفوق مرتبط بمقدار التعاليم التي تتم طاعتها بشكل رهيب، من قبل الجيش والشرطة
...التي تكون على أتم الاستعداد لاستخدام الأسلحة، وإذا كان العكس فالأمور تصبح
أكثر عنفا.
عندما
تختفي الطاعة للقادة لا يعود أي جدوى لاستعمال أدوات العنف، تقول أرندت في كتابها
في العنف : " الحال أن أدوات العنف قد تطورت تقنيا إلى درجة لم يعد من الممكن
القول بأن ثمة غاية سياسية تتناسب مع قدرتها التدميرية".([21])
فالحكومة توطد سلطتها بواسطة أدوات العنف، فالرجال الأفراد الذين لا يوجد من
يقف بجانبهم في السلطة لا يمكن أن ينجح لهم استخدام العنف استخداماً ناجحاً.
فالعنف
هو الحل الأخير الذي تستعين به السلطة للتصدي للمجرمين والمتمردين أي الأقلية التي
ترفض الخضوع لسيطرة الأكثرية. أكيد
أن الحكومة هي ذات طابع مؤسساتي و الأجوبة عن سؤال ما غاية الحكومة؟ هي متعددة بل
أحيانا طوباوية، كأن نقول أن غاية الحكومة هو تحقيق السعادة واختفاء الطبقية أو
مساعدة الناس على العيش معا. فالإيمان بالعنف كأنه القوة التي تدفع بعجلة الحياة
إلى الأمام وهو إيمان قديم. كما أن الملوك تخافه ليس بسبب طغيانهم بل بسبب ضعفهم.
يتم اللجوء إلى العنف كوسيلة لتوطيد القانون
والنظام، أو الإصلاحات، فالعنف لا يعطي قيمة لقضايا ولا يعلي من شأن التاريخ أو
الثورات هو فقط يضيف الدراما على المطالب وتنتقل إلى الرأي العام لافتا النظر
إليها. فأحياناً يكون العنف هو الذي نستطيع من خلاله أن نسمع صوت العدالة.
إن العنف وإن حقق على المدى القصير نتائج ومكاسب لفئة معينة على حساب فئة أخرى، فليس بمقدوره على المدى الطويل أن يؤسس فضاء عمومي من خلاله يعبر الإنسان عن
متطلباته حيث يكون فضاء الظهور والنقاش في القضايا العامة.
إن العنف لا يولّد غير العنف والضغائن
والأحقاد، ولا يمكن أن يوفر حلولاً بل يوفر مزيداً من القتل والدمار والحروب. دافعت
أرندت في كتاباتها السياسية على اللاّعنف وكيف لا وهي خبرته والإبادة عن قرب؛ تحت
مسمى التطهير والحفاظ على العرق الصافي. حيث تم القضاء على حق الآخر في الحياة
لذلك تؤكد أرندت على الانفتاح على الآخر والاعتراف به والحوار معه رغم ما يحمله
من اختلافات.
لقد
سعت أرندت إلى خلق جو سياسي كما كان عند الإغريق، جو مليء بالمبادرة والتفاعل
والحوار رغم تعدد الاختلافات حيث كانت الاغورا هي فضاء اللقاء بين الأفراد.
إن العنف من منظور المنظرة السياسية أرندت يهدد المجال العام، وقد وجد له البعض
مكانا شرعيا في السياسة، إلا أن ارنت ترى فيه تهديداً للتعددية، إنه يهدّم الحياة
السياسية.
([2])حنة
أرندت, , بين الماضي والمستقبل, (ستة بحوث في الفكر السياسي)؛ ترجمة, عبد الرحمان
بشناق, مراجعة, زكريا إبراهيم, تصدير
وتدقيق, هادية العرقي, جداول للنشر والترجمة والتوزيع, ط1, 2014,بيروت, ص 143.
([6])حنة
أرندت, في الثورة, ترجمة عطا عبد الوهاب, مراجعة: رامز بورسلان, المنظمة العربية
للترجمة, ط1, بيروت, 2008, ص13.
([7])حنة
أرندت, في الثورة, ترجمة عطا عبد الوهاب, مراجعة: رامز بورسلان, المنظمة العربية
للترجمة, ط1, بيروت, 2008, ص 25.
([9])حنة
أرندت, , بين الماضي والمستقبل, (ستة بحوث في الفكر السياسي)؛ ترجمة, عبد الرحمان
بشناق, مراجعة, زكريا إبراهيم, تصدير
وتدقيق, هادية العرقي, جداول للنشر والترجمة والتوزيع, ط1, 2014, بيروت, ص 27.
([10])حنة
أرندت, ما السياسة؟, ترجمة: الدكتور زهير الخويلدي, تحقيق: أ. سلمى بالحاج مبروك,
دار الأمان, الرباط, ط1, 2014, ص 123.
([11])حنة
ارنت, رأي في الثورات, تعريب: خيري حماد, الهيئة العامة لقصور الثقافة,
ط2,القاهرة,2011, ص 12.
([12])حنة
أرندت, في الثورة, ترجمة عطا عبد الوهاب, مراجعة: رامز بورسلان, المنظمة العربية
للترجمة, ط1, بيروت, 2008, ص49.
حنة
أرندت, في الثورة, ترجمة عطا عبد الوهاب, مراجعة: رامز بورسلان, المنظمة العربية
للترجمة, ط1, بيروت, 2008, ص 45.([15])
([17])حنّة آرنت, ايخمان في القدس, تقرير حول تفاهة الشر,
ترجمة وتحقيق: أ. نادرة السنوسي, تقديم: د. علي عبود المحمداوي, دار الروافد
الثقافية, بيروت, ط1, 2014, ص16.
([18]) الفعل السياسي بوصفه ثورة, دراسات في جدل السلطة والعنف عند
حنّه آرنت, مجموعة مؤلفين, إشراف وتنسيق: د. علي عبود المحمداوي, تقديم: د. محمد
شوقي الزين, دار الفارابي, بيروت, ط1, 2013, ص 250.