يُعد الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر (1864-1920) أحد
أبرز المفكرين الذين تناولوا مسألة الدولة من زاوية سوسيولوجية. يُعرف فيبر
بتأكيده على أن التعريف السوسيولوجي للدولة الحديثة يتعين أن يرتكز على الوسيلة
الأساسية التي تميزها عن غيرها من الكيانات السياسية: العنف. وفي هذا السياق،
يستشهد فيبر بما قاله ليون تروتسكي: "إن كل دولة تقوم على العنف"([1]).
من هذا المنطلق، يرى فيبر أن الدولة، في جوهرها، ترتبط بالعنف بشكل لا يمكن
إنكاره، فبزوال هذا العنف، تتحول الدولة إلى حالة من الفوضى واللانظام.
في كتابه رجل العلم والسياسة، يؤكد فيبر أن
العنف ليس الوسيلة الوحيدة أو الطبيعية للدولة، لكنه الوسيلة النوعية التي تميزها،
بل يعبر عن علاقة حميمة وضرورية بين الدولة والعنف في العصر الحديث. يقول فيبر:
"والعنف بالطبع ليس الوسيلة الطبيعية أو الوحيدة للدولة ولا مجال للنقاش في
ذلك، بل هو وسيلتها النوعية، أما الآن تحديداً فإن العلاقة بين الدولة والعنف
علاقة حميمة بشكل خاص"([2]). يمكن فهم هذا التصور في إطار ارتباطه بواقع
الهيمنة السياسية التي تستند إلى العنف لتحقيق الاستقرار وحفظ النظام. ويضيف فيبر
أن الدولة تشرع في استخدام العنف لتحقيق أهدافها العامة وتوجيه سلوك الأفراد نحو
الطاعة.
العنف
المشروع:
ماكس فيبر يعتبر العنف الذي تمارسه الدولة
"عنفًا مشروعًا"، أي أنه حق حصري للدولة يتم من خلاله فرض النظام، إذ
يُسمح فقط للدولة بممارسة العنف. فالأفراد والجماعات لا يحق لهم استخدام العنف ما
لم تمنحهم الدولة الإذن بذلك. بذلك، يصبح العنف الذي تمارسه الدولة جزءًا أساسيًا
من هيمنتها على المجتمع. في هذا الإطار، يدعو فيبر إلى طاعة الحاكم من قبل
المحكومين باعتبارها أساس الاستقرار السياسي. ومن ثم، تُعد الدولة الحديثة كيانًا
لا يمكنه التعايش دون القدرة على القهر الفيزيائي المشروع. وبذلك، تعتبر الدولة
الحديثة جهازًا بيروقراطيًا، تتضمن فيه الإدارة وظائف متنوعة تهدف إلى تعزيز
الطاعة للسلطة الحاكمة.
إنه من خلال هذا العنف الشرعي، الذي يحتكره
جهاز الدولة، يمكن الحفاظ على الاستقرار وضمان تنفيذ قراراتها على مستوى الأفراد
والجماعات. فالسلطة السياسية، وفقًا لهذا التصور، لا تقتصر على اتخاذ القرارات
فقط، بل تمتد إلى القدرة على فرض هذه القرارات بالقوة إذا لزم الأمر.
العنف كشرعية: العلاقة بين القانون
والتقاليد
فيما يتعلق بمصادر الشرعية، يعرض فيبر ثلاثة
أنواع رئيسية للسلطة، والتي تستند إلى أسس مختلفة. الأولى هي السلطة القانونية،
التي تستمد شرعيتها من قواعد ومعايير موضوعية وغير شخصية. الثانية هي السلطة
التقليدية، التي تستمد شرعيتها من التقاليد والعادات الراسخة في المجتمع. أما
الثالثة فهي السلطة الكاريزمية، وهي السلطة التي تنبع من شخصية قائد يتمتع بصفات
استثنائية، ويحقق الطاعة والولاء من خلال الجاذبية الشخصية أو القوة البطولية.
يقول فيبر في هذا السياق: "حامل
الكاريزما يغتنم المهمة التي يراها مناسبة له، ويطالب بالطاعة والولاء بحكم
رسالته"([3]). يضيف أن هذه السلطة تعتمد على اعتراف الشعب بالزعيم وولائه له،
فإذا فشل هذا الزعيم في الحفاظ على هذا الاعتراف، فقد يختفي سلطته. وتظهر السلطة
الكاريزمية بشكل بارز في المجتمعات التي تشهد فترات من الاضطراب أو الغموض
السياسي. ومع ذلك، يعارض فيبر فكرة أن السلطة الكاريزمية يمكن أن تكون ديمقراطية،
لأن الولاء للزعيم لا يرتبط دائمًا بمصلحة الشعب العامة.
العنف
وأبعاده السوسيولوجية
إذن، في تصور فيبر، العنف ليس مجرد أداة
للدولة؛ بل هو جوهر وجودها وشرعيتها. يرى أن الدولة تتشكل أساسًا من خلال احتكارها
للعنف، مما يمنحها القدرة على الحفاظ على النظام ومنع الفوضى. بالنسبة له، لا يمكن
تصور الدولة دون هذا العنف المشروع، الذي يُعد ضرورة لفرض النظام الاجتماعي وتحقيق
التنسيق بين الأفراد. بعبارة أخرى، يرى فيبر أن القوة ضرورية لتحقيق التنظيم
الاجتماعي، وذلك فقط إذا كان المحكومون مقتنعين بشرعية السلطة التي تمارس عليهم.
العنف، في هذه الرؤية، لا يعني فقط القوة
الجسدية المباشرة، بل يتضمن أيضًا مجموعة من الأدوات التي تعمل على تنظيم سلوك
الأفراد في المجتمع. هذه الأدوات، التي تشمل الأجهزة الأمنية والقضائية، تسهم في
تعزيز الدولة كقوة منظمة تفرض قوانينها.
نقد
حنة أرندت لرؤية فيبر
من جهة أخرى، تنتقد الفيلسوفة السياسية حنة
أرندت تصور ماكس فيبر، خاصة فيما يتعلق بعلاقته بين الدولة والعنف. إذ تعتبر أرندت
أن السياسة ليست مجرد أداة للسلطة السياسية، بل هي قبل كل شيء ميدان الحرية. في
هذا السياق، ترى أن العنف لا يمكن أن يكون جزءًا من طبيعة الدولة السياسية، بل هو،
في الواقع، ما يظهر عندما تغيب السياسة أو عندما تهدد السلطة. وفقًا لأرندت، العنف
هو استجابة لتهديد السلطة أو عندما تصبح السياسة في خطر، وهو ما يجعلها تختلف
جذريًا عن الفهم الذي قدمه فيبر.
أرندت ترى أن السياسة يجب أن ترتبط بشكل
أساسي بالمشاركة العامة والحرية، وليس بالقوة الجبرية. وهذا يختلف عن نظرية فيبر
التي تعتبر أن العنف هو جوهر السلطة السياسية. من هنا، تبرز الفروق الجوهرية بين
فهم فيبر الذي يعزز احتكار الدولة للعنف كشرعية، وبين تصورات أخرى ترى أن السياسة
يجب أن تبقى مجالًا للحرية والتوافق، لا للفرض بالقوة.
من ناحية أخرى، يرى فيبر أن التصور الماركسي
عن الدولة كأداة للصراع الطبقي يختلف عن رؤيته. في التصور الماركسي، تُعتبر الدولة
أداة للطبقة الحاكمة، التي تستخدمها للسيطرة على الطبقات الأخرى. أما فيبر فيرى أن
الدولة لا تقتصر على أن تكون أداة للطبقات المسيطرة فقط، بل هي أيضًا الكيان الذي
يحتكر العنف المشروع، مما يضمن لها السيطرة والشرعية في مواجهة الفوضى وعدم
الاستقرار. هكذا، تُعد الدولة عند فيبر غير محايدة تمامًا، بل هي جزء من بنية
السلطة التي تحافظ على استقرار النظام السياسي.
خلاصة:
إن ماكس فيبر قد قدم فهمًا عميقًا لدور
العنف في الدولة، مؤكدًا على أن العنف ليس مجرد أداة تستخدمها السلطة الحاكمة، بل
هو جزء من ماهية الدولة ذاتها. الدولة الحديثة، وفقًا لهذا الفهم، تتسم بقدرتها
على احتكار العنف وتوظيفه لتحقيق الاستقرار وحفظ النظام. ورغم الانتقادات التي
وجهها بعض المفكرين مثل حنة أرندت، تبقى أطروحة فيبر عن العنف كجوهر للدولة من
أكثر الأطروحات سوسيولوجية تأثيرًا في فهم العلاقة بين السلطة والمجتمع.
المراجع:
1.فيليب هانس، حنّة أرندت: السياسة
والتاريخ والمواطنة، ترجمة: خالد عايد أبو هديب، المركز العربي للأبحاث ودراسة
السياسات، بيروت، 2018، ص 30.
2.ماكس فيبر، الاقتصاد والمجتمع، ترجمة: محمد فضل الله العميري، المجلد الرابع
(السيادة)، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2015، ص 500.
3.الفعل السياسي بوصفه ثورة، دراسات في جدل السلطة والعنف عند حنّه آرنت، مجموعة
مؤلفين، إشراف وتنسيق: د. علي عبود المحمداوي، تقديم: د. محمد شوقي الزين، دار
الفارابي، بيروت، 2013، ص 227.