الفضاء
العمومي
لقد احتلت مفاهيم التعددية والفعل السياسي
والحرية والعيش المشترك حيزاً مركزياً في الفكر المعاصر حيث تذوب وتنصهر هذه المفاهيم لتشكل المجال
العمومي كفضاء للظهور الذي يمكننا تشبيهه بخشبة
المسرح. إذ لا يمكن الحديث عن حياة إنسانية ممكنة إن لم يكن هناك بشر آخرين،
" بل أيضاً لأن معنى أن تكون إنسانيا هو العيش مع آخرين هم متميزون ويشبهوننا
في آن
إن ما
يمنح لوجودنا معنى هو حضور الآخر المختلف عنا وشبيهنا في الوقت ذاته،
هذا الآخر الذي تجمعني به علاقة تذاوتية تؤسس لفضاء فيه العيش مشترك. إن الفضاءالعمومي يلعب دوراً كبيراً في ترسيخ عدة قيم من ذلك الديمقراطية
والتعددية والحرية، كما أننا لا ننسى بأن إيمانويل كانط كان يدعو إلى أهمية
الجرأة في استخدام العقل، يمكن أن نقول عن كانط؛ بأنه المنظر الحقيقي للمجال
العمومي، وبشكل دقيق في مقالته الشهيرة ما التنوير؟
كانط والتنوير: من القصور إلى النضج
لقد عرف كانط
التنوير، بخروج الإنسان من حالة القصور العقلي إلى مرحلة النضج لذلك جعل شعار
التنوير هو تجرأ على استخدام فهمك الخاص والوقوف في وجه الوصاية؛ كما أنه حث على
أهمية انعتاق المرء من العجز الذاتي، فالطبيعة حررت الإنسان من أي قيود وأغلال
وسلاسل خارجية. نجد عدد من الناس يميلون إلى الكسل والعجز؛ هذا الأمر يجعل الآخرين
ينصبون أنفسهم بكل سهولة قادة عليهم ومرشدين لهم. حسب كانط فالتنوير يتطلب
الحرية من أجل الاستفادة من عقل الفرد في كل المجالات؛ لأن الإنسان يملك عقلا
يستطيع به كشف الحقائق، هذا العقل المثقف والمتعلم والمستخدم بشكل علني يجعل
الإنسان يصل إلى مرحلة النضج. لقد كرس كانط حياته لتحرير الإنسان من كل قيد، لذلك
فالفلسفة الكانطية غيرت العالم على المستوى الفكري.
الفضاء العمومي: مجال للنقاش الحر
فالفضاء العمومي من خلاله يقوم العقل بتحرير الإنسان من الأوهام
والخرافات والدوغمائية والعنف، كما أنه يحرر الإنسان من حالة الاغتراب بالمفهوم
الآرنتي. الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني المعاصر يورغن هابرماس Jürgen
Habermasوأرندت كلاهما تأثر بمفهوم كانط للعمومية،
فقد اعتبر كانط الفضاء العمومي هو فضاء الآراء التي تُعرض ويمكن نقدها وفحصها لأن
القرن الثامن عشر كان قرن النقد بامتياز.
كان الفضاء العمومي
ذو وظيفة نقدية، إلا أنه تحول بعد ذلك إلى فضاء للهيمنة والسيطرة
والطبقية والدعاية وخدمة مصالح جهات معينة. الفضاء العمومي عند هابرماس هو
الاستقلال عن الأجهزة الإدارية للدولة وكذلك أن يكون بعيداً عن سيطرة القبيلة
والعائلة...حيث يكون المواطن حرا ومستقلا من أجل أن يكون له رأي وإرادة
تصب في خدمة الصالح العام.
لئن كان باستطاعة الإنسان الكدح والعمل بعيداً عن الآخرين، فإنه
لن يستطيع أن ينخرط ويمارس الفعل السياسي لوحده بعيداً عن عين
وتأثير الآخر، لا يمكن تخيل الإنسان في انعزال تام خارج مجتمع البشر؛ إن الإنسان
مشروط بالتواجد الدائم مع الآخرين وتأثيثهم للفضاء العمومي.
حيث يقول فيليب هانسن وهو
مشارك في العلوم السياسية في جامعة ريجينا في كندا ما يلي: "وليس من المبالغة
الادعاء أن المطلب الرئيس الذي تطالبنا به أرندت هو أن نولي اهتماماً، أكثر مما
نفعل عادة في ثقافتنا الفردانية، إلى حقيقة أننا نعيش في عالم مع آخرين، وأن ميزة
المؤسسات السياسية السليمة هي في أنها لا تقوم فحسب على أساس التعددية، بل في أنها
ترعى أيضا هذه التعددية، جاعلة منها قوة حية ومرئية في حيواتنا اليومية".([2])
فضاء الفعل السياسي والتعددية
لقد تطرقت
المنظرة السياسية حنة ارنت لتعريف أرسطو للإنسان بأنه حيوان سياسي، إلا أن الترجمة
القديمة للعبارة أنه حيوان اجتماعي. إلا أن ارنت بررت ذلك بأن الفعل السياسي لا
يمكن تصوره بعيداً عن الاجتماع البشري. كان تأسيس البوليس كمجال عمومي وفضاء للفعل
السياسي، وهذا الأمر هو الذي جعل الأثينيين في تعايش مشترك ومنحهم فرصة لعيش كامل
حياتهم في المجال السياسي. إذ أن المجال العمومي هو فضاء للفعل السياسي، كما
أنه فضاء للتعدد والاختلاف في الآراء والتوجهات. إن الفنان والنحات والمسرحي
والموسيقي هو بحاجة إلى جمهور لكي يرى إبداعه وبراعته، مثل الإنسان الفاعل هو
الآخر يحتاج إلى فضاء عام.
إن الفضاء
العمومي لا يصبح سياسي إلا داخل مدينة أي الارتباط بمكان محدد من أجل
التعايش والتواصل الحوار مع الأغيار، لقد كان ظهور المجال العمومي على حساب المجال
الخاص. أن يغادر الإنسان مجاله الخاص لولوج غمار المجال السياسي لهي شجاعة تحسب
له؛ إن كل ما يظهر في المجال العمومي هو قابل لأن يُرى ويُصغى له، لأن
حضور الآخرين هو ما يؤكد لنا واقعية العالم ووقعيتنا.
يلعب المجال
العمومي دوراً أساسيا في تخليص الذات من التواري والاختفاء؛ إلى حيز البدو والظهور.
كما أن الفضاء العمومي تطور وأصبح مرتبط هو الآخر بتقنيات ووسائط، حيث النقاش الحر
وأيضا هو صلة وصل بين المجتمع والدولة، فيه يتم إثارة القضايا العامة وتبادل
الآراء حولها. بعد أن كان هذا الرأي حبيس الذات، بحيث يتحول من رأي خاص إلى رأي
يطرح بشكل علني دون خوف.
وبالتالي يتمكن
الأفراد من المشاركة في التغيير الاجتماعي وإيجاد الحلول لمختلف القضايا ويتحقق
هذا بمنح الحرية في التعبير، واحترام الآراء وتقبل النقد والقضاء على سياسة
الإقصاء لأطراف معينة. قد تساهم هي الأخرى في التقدم الاجتماعي والازدهار
الاقتصادي والغنى الفكري؛ فالاعتراف بالآخر يحقق المصلحة
المشتركة أي استعمال العقل استعمالاً منفتحا على التنوع والاختلاف والتسامح
والحوار.
إن منح
المواطنين حرية التعبير سيشكل إرادة سياسية حقيقية في التغيير وفي
اختيار من هم أهل لخدمة الوطن في ظل غياب سياسة القمع في عملية التواصل؛ هذه
الأخيرة التي تجعل الفرد منعزلاً؛ متقوقعاً على ذاته ويترك النقاش العام. يساهم
الحوار في الفضاء العمومي في الحد من العنف أو التخفيف منه، أو تجنبه من الأساس
ويمكّن من التفاهم بين الذوات.
اعتبر
هابرماس الفضاء العمومي فضاء للتواصل والحوار له ارتباط بممارسة المواطنة والفعل
السياسي، في جو ديمقراطي يساعد على اتخاذ القرارات
السياسية التي تحقق الخير العام. ولتحقيق ذلك وفق هابرماس لا بد من التمتع
بأخلاقيات الحوار داخل الفضاء العمومي بحيث كل فرد، يتمتع بكامل حقوقه
والمساواة في الكلام مع عرض الأفكار بالاعتماد على الحجج والبراهين.
إن التفكير في السياسة
بطريقة أو أخرى مشروط بالتفكير في الفضاء العمومي سواء كان واقعي أو افتراضي، فهو
كما عبر عن ذلك هابرماس حلبة للنقاش العام وكشف الحقائق ليصبح الفرد فاعلاً بدل من
أن يكون مفعولاً به. بفضل المجال العمومي يخرج الإنسان من الظلمات: "وبما أن
تصوّرنا يخضع تماماً إلى المظهر، وبالتالي يخضع إلى وجود مجال عمومي حيث يمكن
للأشياء أن تظهر وتتخلص من ظلمات الحياة الخفية، فإن الغروب نفسه الذي يُنير
حياتنا الخاصة وحياتنا الحميمية هو انعكاس لنور ساطع للمجال العمومي".([3])
يأخذ المجال
العمومي مع حنة ارنت بعداً آخر، بالإضافة إلى رؤية وسماع الآخرين فإن
الأمر يتعدى ذلك إلى التمييز والاختلاف والانكشاف للآخر باعتباره مجالاً
للتعددية من أجل ممارسة الفعل السياسي. هذا الأخير الذي يتطلب الكثرة
البشرية وأن يكون البشر متساوين، وأيضا متميّزين، حيث تقول ارنت في كتابها الوضع
البشري: " إن الكثرة البشرية، الشرط الأساس لكل من الفعل والكلام، تملك
الطابع المزدوج للمساواة والتميز".([4])
فضاء التعايش المشترك
إن السياسة
لا تنشأ فقط باجتماع البشر بل بتأسيس فضاء عمومي تنشأ وتتوطد من خلاله العلاقات؛
إن الحديث عن المجال العمومي عند ارنت مرتبط بالنقاشات المعاصرة التي تخص الحياة
الحضرية في ظل الأوضاع المعاصرة من خلال إمكانية الوصول إلى مواقع مشتركة يجتمع
فيها الأفراد بوصفهم فاعلين ومواطنين يفعلون معا. كما تنتقد أرندت مجتمع الوفرة
والاستهلاك الذي فقد قدرته على جمع الناس معا؛ وعلى الربط بينهم كما الفصل.
تعطي أرندت مثال عن
انحسار المجال العمومي واختفاءه؛ بتلك الطاولة التي يتحلق حولها عدد من
الناس مجتمعين معا, وفجأة تختفي من بينهم, في وضعية غريبة؛ حيث لم
يعودوا منفصلين عن بعضهم ولكنهم أيضا لم يعودوا مرتبطين بأي شيء. تركز ارنت على
أهمية وجود مجال عمومي يربط بين البشر باعتبارهم كائنات فانية, هذا المجال لا يكون
حكراً على جيل دون آخر, بل يتجاوز حياة البشر الفانين, إلى نوع من الخلود الأرضي
الذي تتوق الأنفس الفانية إلى تحقيقه.
إن العالم المشترك حسب ارنت هو ما ندخله متى نولد ثم نتركه خلفنا حين
نموت. فهو مشترك بيننا وبين من كانوا قبلنا ومن سيأتون بعدنا. إن وجود المجال
العمومي ينبغي أن يكون على وجه الدوام ولا يرتبط بجيل واحد بل يتطلع
للأجيال المستقبلية." والإنسان ككائن سياسي لا يتحقق خلوده ولا تدرك سعادته
إلا داخل فضاء عمومي يحمي أهم مميزاته وهي الحرية، بما هي فعل ذو بعد أخلاقي
وسياسي مسؤول، أو بالأحرى كمسؤولية تنبع من الذات وتمتد إلى الآخرين".([5])
كذلك سعت ارنت إلى توضيح أن للمجال الخاص أهمية وأن هناك أشياء مهمة يكون المجال الخاص هو الأفضل لها؛ لكي تحافظ على ديمومتها وتعطي ارنت مثال الحب هذا الأخير الذي يموت بمجرد معرفة الآخرين له. حيث تقول أرندت: " فإننا سنرى أن هناك أشياء جد مهمة لا تحافظ على وجودها إلاّ في المجال الخاص. من ذلك الحب، الذي، وعلى خلاف الصداقة، يموت أو ينطفئ بمجرد أن يُكشف للجميع.
’لا تتكلم عن حبك‘، إن الحب الذي لا نتكلم عنه هو
الحب الذي يوجد ويعيش".([6]) فالأمور التي يمكن رفضها
في المجال العمومي مثل الحب والنظر له على أساس أن ليس له دور
مهم في الحياة السياسية، وغير قادر على تغيير العالم، قد يكون له سحر خارق في
تغيير العالم وقد وضحت ارنت هذه المسألة في كتابها الوضع البشري حيث قالت: "
وما يعتبره المجال العمومي دون أهمية له أحيانا سحر جد خارق للعادة وهو جد معد
وقابل للانتشار بحيث يمكن لشعب بأكمله أن يتبناه باعتباره طريقة في
العيش...".([7])
الأشياء التي ينظر إليها
على أنها تافهة أو عاجزة عن إحداث الفرق هي التي تكون قادرة على تحقيق السعادة،
فالمجال العمومي يجمعنا فهو عالم المشترك، والمشترك حسب ارندت لا ينبغي أن
يكون أنانيا فهو ليس مشترك مع من يعيشون معنا بل يتجاوز ذلك تقول:
" إنه ما يكون مشتركا بيننا لا فقط مع من يعيشون معنا، بل كذلك مشترك مع
أولئك الذين كانوا هنا قبلنا ومع أولئك الذين سيأتون بعدنا".([8])
الحديث عن المجال العمومي يعني ضرورة أن ينكشف من
خلاله الفاعل لنظرائه عبر الفعل والكلام وليس العنف والإكراه. لقد
كانت ممارسة العنف في التصور اليوناني لإكراه الآخرين وإخضاعهم عوض الإقناع فعلا
لا يتناسب مع المواطنين داخل المدينة، وإنما هو فعل مناسب للأمم الأخرى. فلطالما
اعتبر العنف من منظورهم الفعل، ما قبل السياسي الذي لا يجب أن يعكر صفو الحياة
السياسية داخل المدينة، والتي مثلت على الدوام مجالا للحرية والمساواة عبر الفعل
السياسي وليس الفعل العنيف.
المراجع:
فيليب هانس, حنة أرندت: السياسة والتاريخ والمواطنة, ص 18.([1])
([2])فيليب هانس, حنّة
أرندت: السياسة والتاريخ والمواطنة, ترجمة: خالد عايد أبو هديب, المركز العربي
للأبحاث ودراسة السياسات, ط1, بيروت, 2018, ص 18.
حنة أرندت, الوضع البشري,
ترجمة, هادية العرقي, مؤسسة مؤمنون بلا حدود, ص 72([3])
المرجع السابق, 197.([4])
([5])الفعل
السياسي بوصفه ثورة, دراسات في جدل السلطة والعنف عند حنة آرنت, مجموعة مؤلفين,
إشراف وتنسيق: د. محمد شوقي الزين؛ دار الفارابي, ط1, 2013,ص 396.
([6])حنة
أرندت, الوضع البشري, ترجمة, هادية العرقي, مؤسسة مؤمنون بلا حدود, ص 73ـ 72.
المرجع السابق, ص 200.([7])
([8])الفعل السياسي بوصفه ثورة, دراسات في جدل السلطة والعنف عند حنة آرنت, مجموعة مؤلفين, إشراف وتنسيق: د. محمد شوقي الزين؛ دار الفارابي, ط1, 2013,ص 76.