الفعل والكلام هما الملكتان التي تظهر فيهما الكائنات البشرية لبعضها البعض لا باعتبارهم أشياء مادية، بل باعتبارهم بشرًا. كما أن الفعل المنفتح على المبادرة والتجديد يُعتبر جوهرًا يجعلنا نتوقع ما هو غير متوقع. مع كل ولادة، يظهر شخص فريد في فعله وفكره، مما يجعل كل ولادة بمثابة معجزة جديدة في العالم، كما تسميها أرندت "معجزة الولادة".يتداخل الفعل والكلام بشكل حميمي عند أرندت؛ فبواسطة الكلام نستطيع الإجابة على سؤال "من نحن؟"، وبه يمكننا بناء جسور التواصل مع الآخر بدلاً من الانكفاء على الذات والاكتفاء بها. الإنسان هو صانع تاريخه، وهو البطل في قصصه الخاصة، ويخلّد ذكراه بأفعاله وأقواله. التاريخ يسجل أمجاد الشجعان لا الجبناء.
الفعل السياسي: أداة للإبداع والتغيير
الفعل الأخلاقي والسياسي: يحد من العنف
تؤكد أرندت أن "كل فعل أخلاقي أو سياسي يقلل
كمية العنف الممارس بواسطة البشر بعضهم ضد بعض، ينقص معدلات الألم في
العالم"([4]). من هذا المنطلق، لا يتحقق الفعل إلا داخل التعددية، حيث أن
السياسة تحدث فقط عندما يجتمع الناس ليتناقشوا بشأن أوضاعهم بواسطة اللغة في
الفضاء العام. أرندت تدعو إلى تغيير العالم لا فهمه، مشيرة إلى غياب الفعل السياسي
في العالم الحديث والمعاصر. ومن هنا، يُعد الفعل السياسي الأساس لتشكيل مجال عام
وعالم مشترك يسوده الاستقرار والأمن من خلال علاقة مضايفة بين الذات والآخر
المختلف.
إن الفعل السياسي يتطلب الظهور ووجود الآخرين.
فالفرد لا يعيش بمفرده بل يشاركه الآخرون في هذا العالم، والوعي بمسألة التعددية
يعد شرطًا أساسيًا لتحقيق الفعل. على عكس المفكرين الذين ينسحبون من العالم، مثلما
كان يفعل سقراط، الذي جمع بين الفكر والفعل دون مغادرة الميدان العام، إذ لم يختَر
الانغلاق على الذات. في اليونان القديمة، كان الأسياد يتحررون من العمل للتمكن من
التفرغ والاستمتاع بحرية المجال السياسي. كان الناس يتفاعلون في المدينة ويحكمون
بعضهم البعض دون اللجوء إلى الإكراه أو استعمال القوة، وكانت حياتهم تتم من خلال
الكلام والإقناع.
إن التجديد في الأفكار يتطلب الاختلاف، لكن هذا لا
يعني الكره أو الحقد، بل يجب أن تكون المشاعر الطيبة حاضرة رغم هذا الاختلاف، لأن
الرابط الإنساني هو الذي يجمعنا. إن الفكرة الأساسية هي أنه لا بد من التخلص من
فكرة إلغاء الطرف الآخر. تعتبر أرندت أن العالم هو مجموعة من العلاقات التي نلتقي
فيها مع الآخرين. وعندما ينسحب الإنسان من العالم، فإنه يصبح في حالة
"اللاعالم" (Immonde). قد تجسد هذه الفكرة في طريقة تعامل بعض الفلاسفة مع السياسة، حيث
انغمسوا في التفكير الميتافيزيقي بدلاً من المشاركة في المجال السياسي.
كما تساءلت أرندت عن سبب عدم مقاومة اليهود للطرد،
وهم الذين كانوا يساقون إلى المحرقة، قائلة: "ليس هناك ما هو أقسى سوى هذه
المواكب الاستعراضية لبشر متجهين نحو الموت مثل عارضات الأزياء"([5]).
خلاصة:
رغم أن أرندت تحدثت عن الأنشطة الإنسانية الثلاثة كجزء من الحياة النشطة، إلا أنها أعطت أهمية خاصة للفعل، وجعلت من التعددية والحرية ووجود الآخرين من سماته الأساسية. يتيح الفعل للإنسان التحرر من الضرورات البيولوجية والتخلص من الحاجة المادية. ومن خلال الفعل، يُخلد الإنسان نفسه ويحررها. لذلك، أكدت أرندت على أهمية السياسة، حيث إنها المجال الذي يتحرك فيه الفعل، مبرزة أن الفعل يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالكلام، ويجعل الإنسان متميزًا في حضور الآخرين.
المراجع:
1.حنة أرندت, ما السياسة؟, ترجمة وتحقيق الدكتور زهير الخويلدي وأ. سلمى بالحاج مبروك, دار الأمان، الرباط، ص 31.
2.الوضع البشري, ص 76.
3.حنة أرندت, في العنف, ترجمة إبراهيم العريس, بيروت لبنان, 1992, ص 71.
4.لمرجع السابق, ص 244.
5.حنة أرندت, ايخمان في القدس، تقرير حول تفاهة الشر, ترجمة وتحقيق: أ. نادرة السنوسي, تقديم: د. علي عبود المحمداوي, دار الروافد الثقافية, بيروت, ط1, 2014, ص 40.