كان القرن العشرين قرن الأزمنة الظلماء بتعبير المنظرة السياسية أرندت، قرن الأنظمة التوتاليتارية والعنف السياسي اللذين ساهما في نسيان ماهية الإنسان السياسية، حيث شكل تضاءل المجال العمومي وتراجع الحرية السياسية أزمة حقيقية. أثرت على جل مستويات الوجود البشري في العالم الحديث؛ وخلفت آثاراً سواء على المستوى الثقافي أو السياسي أو الاجتماعي والبيئي والأخلاقي.
لقد عانت أرندت في ظل نظام هدفه القضاء على
شعبها، بعد وصول النازية في ألمانيا للحكم سنة 1933، هذا النظام فلح في القضاء على
عدد كبير منهم، إلا أنها نجت من بطش وظلم النازيين. لقد سعت أرندت إلى فهم هذا
النظام التوتاليتاري كشكل سياسي جديد، فقد اعتبرت التوتاليتارية نتاج كائنات بشرية
أقل ما يمكن قوله عليهم غير أسوياء. إن الإنسان غير السوي هو الذي يسعى إثبات ذاته
وتأكيدها بواسطة القوة.
يتضح أن العنف كان دائماً أداة لممارسة السلطة
والحفاظ عليها، وهذا ما كان واضحاً في الأنظمة الاستبدادية ومعسكرات الاعتقال التي
مرت عبر التاريخ، فهذه الممارسات القمعية كيفما كانت فردية أو جماعية تُدينها
الإنسانية، لأن التقدم على المستوى الحضاري يكون بالابتعاد عن الجوانب الحيوانية
التي تكون في كل فرد.
تعتقد
ارنت أن " الأنظمة الشمولية " ظاهرة جديدة كليا وغير
مسبوقة في التاريخ البشري، تختلف عن أنظمة الاستبداد والطغيان اختلافا جذريا، واعتبرت
الأنظمة التوتاليتارية حاملة بذور دمارها في نفسها، وهو ما قاله فيليب هانسن:
" فهي تعتبر أن الدولة الشاملة تحتوي في أحشائها على بذور تدميرها بالذات، لأسباب من بينها أن كل ولادة لكائن بشري جديد هي بداية، وتأتي معها الفرصة لإنشاء
شيء جديد ما، شيء يشهد على واقع الطاقات البشرية الأصيلة".([1])
أبادت الأنظمة التوتاليتارية الحياة العامة وألغت أي إمكانية لقيام
مجال عمومي سياسي حقيقي، حيث تحولت حياة الناس إلى حياة بئيسة، دمرت طاقات الناس
السياسية وعزلتهم عن بعضهم البعض من خلال زرع الرعب في نفوسهم.
إن التوتاليتارية تفسد الحياة بشكل عام، بل يصل
بها الأمر إلى جعل الأفراد في حيرة من أمرهم غير قادرين على استخدام عقولهم
بالطريقة الصحيحة كما أنهم لا يفرقون بين الخير والشر؛ بين الحق والباطل. يدمر النظام
التوتاليتاري حتى الحياة الخاصة للأفراد عن طريق الإرهاب والرعب وتحويل الفرد إلى
شخص يقدس القائد؛ حيث برز في الوجود نوع جديد من الأفراد والذين تلقبهم ارندت
بالرعاع أو الدهماء، حيث يسهل تطويعهم وقولبتهم من طرف الحركة التوتاليتارية وفق
رؤية سياسية وعقيدة إيديولوجية تنتشر في المجتمع ولا تدع مجالاً للتعددية أو
الاختلاف.
إن غياب سياسة أصيلة تحترم اختلافات أفراد
المجتمع، والسماح بالمشاركة السياسية الفعالة واحتضان الأطراف المعارضة والإصغاء
لها هو الذي أفرز ظهور الأنظمة التوتاليتارية التي شكلت فكر وقيم الفرد في قالب
جاهز وفق حملة ادعائية مليئة بالكذب وتزييف الحقائق وبث الرعب في قلوبهم ومعاقبة
كل من سولت له نفسه الوقوف في وجه النظام التوتاليتاري أو ذكر وحشيته. فمجرد أن
تسيطر الحركة التوتاليتارية على الحكم والسلطة تُباد كل معارضة موجودة أو تنوي
الظهور، وتبدأ برسم طريقها وترسيخ أيديولوجيتها الجديدة عبر وسائلها الدعائية
الضخمة أو البروباغندا...في الأنظمة التوتاليتارية نجد شخصية القائد محاطة برمزية
وهالة فريدة وتبجيل وتعظيم وطاعة رهيبة؛ ولنا في ادولف هتلر نموذج وحتى جوزيف ستالين
وبالتالي تصبح إرادة القائد بمثابة القانون الأسمى الذي يسود الدولة
التوتاليتارية وتنتظم بموجبه مختلف أجهزتها, بل تراقب وتتجسس على بعضها وتخون
أصدقائها لتتقرب إلى القائد الملهم.
إن الاستراتيجية
التي نهجها الزعيم التوتاليتاري هي كما سبق الذكر تعزل أفراد المجتمع
عن بعضهم البعض، ويصبح كل فرد يحيط نفسه بسياج من الشك حول الآخر ويتربص به ويسقطه
في المكر ويتهمه بالخيانة؛ قبل أن يفعل هو ذلك، مما يجعل الدولة تتحول إلى سجن, إلى
جو خالٍ من الديمقراطية والانفتاح على المجال العمومي.
القائد
التوتاليتاري لا يقوم بالنقد الذاتي فهو يقضي على المعارضين, فالسلاح الفتاك بيد
الزعيم يستعمله في الوقت الذي يشاء وضد من يشاء وتنفذ مشيئته بكل عنف وإرهاب متى
أراد ذلك. إن الأنظمة التوتاليتارية هي التي جعلت أرندت تهتم بالسياسية فحياتها
كانت موضوع تفكيرها باعتبارها يهودية حيث قالت: " كان انتمائي إلى اليهود هو
همي, وهمي الحقيقي كان سياسيا".
التوتاليتارية أو الشمولية Totalitarisme
تُشير كلمة توتاليتارية إلى
الإشارة لأنماط من الحكم السياسي، برزت في القرن العشرين، تتميز بديكتاتورية الحزب
الواحد، احتكرت الأجهزة الإيديولوجية والعسكرية واستخدمت العنف لضمان استمرارها.
التوتاليتارية باللاتينية Totalitas ويُقصد بها الكل، بمعنى لا حدود لتدخل
الدولة.
استخدم
هذا المفهوم لوصف أنظمة سياسية ثلاث وهي إيطاليا الفاشية، روسيا الستالينية,،وألمانيا النازية، وأيضا تم استخدامه لوصف دول أخرى. تتميز هذه الأنظمة بإرادتها
للسيطرة على المجتمع وتفكيك بنيته، والتدخل في كل المجالات: " وهي النظام
الديكتاتوري الذي بمقتضاه تتحكم الدولة بطريقة عامة وصارمة في كل جوانب الحياة
الفردية والاجتماعية والسياسية والروحية، حيث تستعمل هذه الدولة العنف المنظم
والشامل وتركز الأيديولوجية الواحدة الشاملة في كل شيء، وأخيراً، الزعامة المطلقة
المعصومة للقائد ( الفوهرر) الفرد الفذ".([2])
مستعينة
بالإيديولوجيا وأحادية الحزب بقيادة زعيم واحتكار تكنولوجي والسيطرة على الاقتصاد
بتنسيق بيروقراطي. تهدف الدولة الكليانية إلى تفكيك تركيبة المجتمع لا تعترف
بالتعددية والانفتاح على الآخر، سعت إلى تحويل الجماهير إلى قطيع مبرمج والتأثير
عليها بالإعلام والعنف، وتشكيل الأفراد وترويض وعيهم وسلوكهم على النحو الذي تريده
الدولة الكليانية.
يوظف
مفهوم التوتاليتارية كما سبق الذكر لوصف
أنظمة اجتماعية سياسية، وهي ألمانيا النازية التي حكمها هتلر، أيضا روسيا أثناء
حكم ستالين، وإيطاليا الفاشية في فترة حكم موسوليني. ظهر اللفظ مع المفكر جيوفاني جنتيلي، إلا أن اللفظ
أعيد تعريفه مع حنة أرندت، فأعطت لهذا المفهوم مرادفات كالشر والديكتاتورية
المدمرة، كما أنها لم تهتم بالعنف عبثا بل لأنها كانت يهودية، نظراً لأن اليهود
تعرضوا للقمع والإبادة والاضطهاد أيام النازية.
إن
مقاربة أرندت لظاهرة الشمولية ركزت على جانبها الإيديولوجي والسياسي، تتطرق
في أغلب مؤلفاتها لهذه المسألة. مع مؤلفة كتاب في
العنف نجد نفحات ماركسية أي الانطلاق من الواقع إلى الفكر، فقد انطلقت المنظرة
السياسية من تجارب واقعية في محاولة منها تعرية النظاميين النازي والستاليني، أي التركيز
على عنف مارسته أنظمة سياسية محددة. كان ينظر إلى العنف على أنه ممارسة ثورية
هدفها تغيير الواقع( التصور الماركسي)، فالنظر إلى أن للعنف إيجابيات هو ما يتحكم
في توجه الأنظمة الكليانية وهنا نتحدث عن النموذج النازي والستاليني. هذا الأمر
جعل أشخاص يقبلون ويمتثلون لكل أوامر الأنظمة إما بالترغيب أو الترهيب، "الدولة
الشمولية تجعل من مناهضيها يختفون سرًّا وفي صمت ".([3])
وهو ذو طابع مؤسساتي وأجهزة تجعل العنف مشرعن، وفي الفلسفة السياسية يوجد
تمييز بين العنف الذي تحتكره الدولة وهو عنف شرعي تبعا للقانون وعنف آخر غير شرعي
يمارسه الأفراد على بعضهم البعض.
وفي جميع الحالات للعنف علاقة بالسلطة، فالعنف
بواسطته يتم مواجهة السلطة القائمة فتحدث المواجهة لأنها هي الأخرى تحافظ على
استمراريتها وبالتالي تواجه العنف بالعنف، نصبح أمام سلطة العنف وعنف السلطة. ركزت
حنة أرندت على التجربة النازية والستالينية من اجل استكشاف حقيقة العنف، لأن النظام
الستاليني والنازي هما اللذين أحلا العنف محل السلطة السياسية فالتفكير في العنف
دون التطرق للوقائع العنيفة هو ضرب من التجريد.
إن هتلر وستالين ما كان لهما أن يستمرا في
السلطة إذ لم يكونا حاصلين على رضا وثقة الجماهير" تتشكل الحركة
التوتاليتارية بالأساس من تنظيمات جماهيرية، تضم إليها أفراداً مبعثرين
ومعزولين".([4])
وكانوا يفتخرون بالجرائم المقترفة, فالنازيون : " على قناعة بأن الشر سيمارس
في عصرنا قوة جذب مرضية".([5])
فالبلاشفة أيضاً لا يعيرون أي اهتمام لم هو أخلاقي. أما تهمة اليهود فهي
المواطنة العالمية، فقد شنت النازية حملة ومؤامرة على اليهود، حيث كان حُكم
هتلر بالقوة والعنف، أسلوبه مكيافيللي بامتياز، كما أن كتابه كفاحي كان
بمثابة إنجيل للنازية؛ حيث ورد في هذا الكتاب ما يلي: " لقد فتحت عيني
على خطرين كنت أجهل مدى تآمرهما على كيان الشعب الألماني، وهذان الخطران هما
الماركسية واليهودية".([6])
وكأن
للناس محبة للشر والجريمة لنقل أكثر إعجابا بالقوة، فالحركات التوتاليتارية تفلح
في جعل الجماهير منظمة، وقوتها مرتبطة بعدد السكان. كانت الأنظمة التوتاليتارية
ذات طموح جاءت نتيجة اللامبالاة السياسية ومحايدة الجماهير التي صارت تشكل
الأغلبية، وواجهت من تراها غير مهمة. قضت الحركات التوتاليتارية على الحركات
الديمقراطية، وتدهور أو انهيار منظومة الطبقات وهي التي عجلت لانطلاق النازية التي
كانت معادية للبورجوازية، كما أنها كانت تستعمل الإيديولوجيا في أساليبها الدعائية.
إن
الانهيار الذي تخلل مجتمع الطبقات جعل هناك هوس برجل الجمهور. ولتأسيس نظام
توتاليتاري كلي سعى ستالين إلى تفتيت الجمهور، فالنظام البلشفي قام بتصفية
الطبقات، قضى على الطبقات المالكة خاصة المزارعون مستخدماً سياسة التجويع والتخويف
والتهجير. لينتقل
إلى طبقة العمال...فالقضاء على الطبقية من الناحية السياسية كان كارثي على الاقتصاد
السوفياتي، كما أصيب المجتمع السوفياتي بالتشتيت عبر حملات التطهير، أصبح الأفراد
مبعثرين ومعزولين وهو الأمر الذي يندرج ضمن سياسة التنظيم التوتاليتاري. لقد كانت
مصانع الموت جحيماً لا مجال للحديث فيه عن الأخوة والإنسانية، فتاريخ الأنظمة
الكليانية هو انتكاسة في تاريخ الفكر البشري الذي يعد بالسلام والأخوة والتعايش، اعتبرتها مؤلفة أسس التوتاليتارية جريمة ضد الإنسانية، لأن هذه المصانع التهمت
أجساد من الشعب اليهودي وأخرى من شعوب مختلفة. كما أن الفرد الذي يريد الانتماء
للحركة التوتاليتارية ينبغي أن تتوفر فيه عدة شروط من ذلك أن يكون له ولاء لامحدود، تقول أرنت: " أما الميزة الأظهر، تمييزا
لها عن كل الأحزاب والحركات الأخرى، فتكمن في اقتضاء الولاء اللامحدود، وغير
المشروط، من قبل المناضل الفرد إزاء
حركته".([7])
فهملر قال وهو يخاطب رجال المخابرات: " شرفي هو ولائي".([8])
من
بين شروط الانتساب إلى الحزب النازي كذلك هو أن يثبت كل عضو من الأعضاء المنخرطة
أن لا يكون لديه نسب أو قرابة يهودية، يعني أن "كل اليهود هم دون
الناس"، بمعنى ضرورة قتلهم، وهذا ما تم تنفيذه بالفعل.
من بين العلامات التي تميز التوتاليتارية
كذلك هي غياب البرامج السياسية.
فالقائد التوتاليتاري موجود بفضل الجماهير وهي
التي في يدها عملية إزالته، هتلر كان يعرف جيداً هذه المسألة حيث قال مخاطبا رجال
الشرطة الألمانية: " كل ما أنتم عليه، تكونونه عبري، وكل ما أنا عليه، أكونه
من خلالكم فحسب".([9])
حتى الفكر حسب هتلر موجود بفضل الأوامر. فالحركات التوتاليتارية واستبدادها
الكلي لا يسمح بأي مبادرة حرة، كانت الحملة الدعائية تقوم بتزكيتها وهذا ما تؤكده
أرنت بقولها : " لقد ادركنا باكراً، وغالبا ما أكدنا أنه في البلدان
التوتاليتارية، يتلازم الإرهاب والحملة الدعائية، حتى ليكونا وجهين لعملة
واحدة".([10])
فقد كانت للتوتاليتارية رقابة مطلقة واستخدمت العنف لإثبات عقائدها
الإيديولوجيا، والعمل على تصفية المفكرين سواء في ألمانية النازية أو إيطاليا
الفاشية.
([1])
فيليب هانس, حنّة أرندت: السياسة والتاريخ والمواطنة, ترجمة: خالد عايد أبو هديب,
المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات, ط1, بيروت, 2018,ص 243.
([2]) الفعل السياسي بوصفه ثورة, دراسات في جدل السلطة والعنف عند
حنّه آرنت, مجموعة مؤلفين, إشراف وتنسيق: د. علي عبود المحمداوي, تقديم: د. محمد
شوقي الزين, دار الفارابي, بيروت, ط1, 2013, ص 224.
([3]) حنّة آرنت, ايخمان في القدس, تقرير حول تفاهة الشر, ترجمة وتحقيق: أ. نادرة
السنوسي, تقديم: د. علي عبود المحمداوي, دار الروافد الثقافية, بيروت, ط1, 2014,ص
300.