إنَّ خوض غمار الفعل والمجال العمومي
مشروطٌ بامتلاك اللغة والقدرة على الخطابة من أجل التأثير على الآخر، وإقناعه
بالكلمات والحجاج بدلًا من ممارسة العنف والإكراه عليه. كما قالت المنظرة السياسية
حنة أرندت: "يبدأ العنف حين ينتهي الكلام" 1. من هنا، تؤكد أرندت على أهمية عملية
التواصل مع الآخرين عبر الفعل السياسي.
تضيف المنظرة السياسية: "إن قدرة الإنسان على الفعل
هي التي تجعله كائنًا سياسيًا؛ وهي التي تمكنه من أن يلتقي بأمثاله من البشر، وأن
يفعل معهم بشكل متناسق، وأن يتوصل إلى تحقيق أهداف ومشاريع ما كان من شأنها أبدًا
أن تتسلل إلى عقله لو أنه لم يتمتع بتلك الهبة: هبة السباحة نحو آفاق جديدة في
الحياة"2.
الفعل هنا ليس مجرد ممارسة تقليدية
مرتبطة بالماديات والأشياء، بل هو فعل يتعلق بالأشخاص الذين يسكنون هذا العالم.
إنه يرتبط بالوجود مع الآخر والتفاعل معه، وهو في جوهره الحرية التي هي بدورها
السلطة بذلك، الإنسان أصبح يعيش حياة سياسية جديدة تتيح له صياغة عبارات
خالدة بكلمات ولغة تساعد على الإقناع، بدلاً من اللجوء إلى العنف والقوة، كما كان
الحال في الماضي في الحياة العائلية حيث كانت الأوامر تفرض بالقوة.
المجال العمومي قد يكون ماديًا أو
افتراضيًا، والغرض منه هو التعبير عن الآراء بحرية دون إكراه من أي جهة. إنه فضاء
للنقاش والعمل المشترك، ويجب أن يكون التعبير عن الرأي بشكل علني ومتاح للجميع.
كما أراد له كانط أن يكون مجالًا تنويريًا. وتزداد أهمية هذا الفضاء في مواجهة
العنف الذي يحدث نتيجة للجهل بأهمية الانخراط في الشأن العام.
الفضاء العام:
الحرية والمواطنة
يعتبر الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس
أن الفضاء العام هو مجال للقضايا العامة، حيث تُمارس الحرية والمواطنة في جو من
المساواة. إن الفضاء العام هو مكان يمارس فيه الفعل السياسي الديمقراطي، ويُعد
مجالًا لتفاعل الأفراد في سبيل مواجهة الشر. كما يقول الفيلسوف الفرنسي بول ريكور:
"أما بالنسبة للفعل، فإن الشر هو قبل كل شيء ما لا يجب أن يكون، بل يجب أن
يصارع"3 . في هذا السياق، يُطرح سؤال: من أين يأتي
الشر؟ وما العمل في مواجهته؟ لأن الشر يعني إيلام الآخر، مما يتطلب بالضرورة
القضاء عليه أو التخفيف من حدة تأثيره.
الوجود البشري مرتبط بالظهور في الفضاء
العام، وليس بالانعزال عنه. يهرب الإنسان المعاصر من كل شيء، يعمل لكي يستهلك،
ويعجز عن الفعل والعيش مع الآخرين في فضاء مشترك. هذه أزمة إنسانية عميقة قد لا
يدركها الفرد. وقد شددت أرندت على ضرورة ربط العالم بالفضاء العمومي والتفاعل مع
الآخرين عبر الفعل السياسي والمشاركة الحقيقية. كما يقول الأستاذ الباحث في
الفلسفة السياسية نبيل فازيو: "وعندما ترصد الفيلسوفة حجم أفول البعد العمومي
من العالم المعاصر، فإنها تشير بذلك إلى انزواء الإنسان الحديث داخل ذاتيته، وما
استلزمه ذلك منه من موقف معادٍ لكل ما هو عمومي (سياسي)"4 . هذه الظاهرة
تشير إلى أن الانسحاب من الحياة العامة لا يمت للإنسانية بصلة.
دور المثقف: التصدي
للشرور
يبرز دور المثقف والفيلسوف في التصدي
للشرور والمشكلات الاجتماعية والسياسية. كما قال الدكتور عبد الإله بلقزيز:
"لا تكتمل صورة المثقف، بل ولا هو يكون أهلًا لحمل الصفة هذه، ما لم يستكمل
وظيفته المعرفية بهذه الوظيفة الاجتماعية التي تُخرجه من فرديته إلى كينونة
اجتماعية أعلى"5
لقد درست أرندت ظاهرة الشمولية على
المستويين الإيديولوجي والسياسي، وخلصت إلى أن الأنظمة الشمولية هي التي جعلت
الإنسان يتقوقع على ذاته ويصبح أكثر تشاؤمًا. هذا التصور انعكس في النظرة السلبية
التي تبنى الكثيرون تجاه الفلسفة، إذ أصبحت الفلسفة مرتبطة بالعزلة والتفكير في
الموت والتبخيس من الحواس والجسد. لذلك، كان هناك تصور أن الفيلسوف لا دور له في
الحياة العملية.
العلاقة بين الفعل
والفكر: ضرورة التغيير
تؤكد أرندت على أهمية تكامل الفعل النشط
مع التفكير التأملي. الفعل يعني أن يكون الإنسان بين الناس، مع "الحرية تارة
والفكر تارة أخرى"6 لذلك، تؤكد أرندت على
ضرورة العيش المشترك، مشيرة إلى أن: "هذا العالم المشترك للجميع، حيث يظهر
الإنسان عند الولادة ومن حيث يختفي عند الموت، فإن الرغبة في معرفة هذا المقر
الكوني وجمع كل أنواع المعلومات الخاصة به أمر طبيعي فعلا".
في زمن الحداثة، تراجعت قيمة الفعل
السياسي في مواجهة الهيمنة العنيفة للأنظمة الشمولية. يشير ذلك إلى عالم متصحر
يختفي فيه كل ما هو إنساني ويغزو العنف. لهذا، دعت أرندت إلى اكتشاف الواحات
المتبقية للوجود البشري لمقاومة هذا التصحر الذي يهدد بتدمير ما تبقى من السياسة
والحياة الإنسانية. يستحضر المقال أيضًا سقراط، الذي كان يتمتع بمنهج توليدي يساعد
الآخرين على التفكير وطرح الأسئلة من أجل الوصول إلى الحقيقة. هذا الأسلوب
التوليدي الذي استخدمه كان في حد ذاته فعلًا سياسيًا. فقد كان يطرح الأسئلة داخل
الفضاء العمومي "الأغورا" مع أقرانه، مؤكدًا على أهمية معرفة الذات
والقدرة على العيش مع الآخرين.
المراجع:
1. حنة أرندت، في العنف، ترجمة إبراهيم العريس، بيروت لبنان، 1992، ص 74.
2. حنة أرندت، الوضع البشري، ترجمة هادية العرقي، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، ص 4.
3. بول ريكور، فلسفة الإرادة: الإنسان الخطاء، ترجمة عدنان نجيب الدين، المركز الثقافي العربي، ط2، 2008، ص 244.
4. نبيل فازيو، الفعل، والصفح، وأزمة عالم متصحر، مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، ص 22.
5. عبد الإله بلقزيز، المثقف والالتزام السياسي، عرب 48، الخليج.
6.حنة أرندت، ما السياسة؟، ترجمة وتحقيق الدكتور زهير الخويلدي، أ. سلمى بالحاج مبروك، دار الأمان الرباط، ص 31.