تستند السياسة إلى واقع التعددية الإنسانية والاختلاف، باعتبارها فعلًا بشريًا مرتبطًا بحياة الإنسان اليومية. تشكل السياسة موضوعًا مركزيًا في الفكر الفلسفي، فقد كانت أغلب القضايا التي واجهها القرن الحديث والمعاصر سياسية بامتياز، بدءًا من الحربين العالميتين وصولًا إلى صعود الأنظمة الشمولية.
وفي هذا السياق، تعرض التراث الفلسفي الغربي لانتقادات شديدة، حيث اعتبر السياسة ميدانًا للمشاكل والشرور التي ألقت بظلالها على الإنسان.
الانسحاب الفلسفي وتأثيره على السياسة
في العصور القديمة، كان الفلاسفة قد
انسحبوا من المجال العمومي، وهو ما يعود إلى أحداث مثل إعدام سقراط وتأسيس أفلاطون لأكاديميته،
حيث أبدع الفلاسفة بعد هذه الحوادث نظريات تهدف إلى إعادة الاعتبار للسياسة بعد أن
تعرضت للتشويه. فقد اتهمت السياسة بالكثير من الآفات التي لحقت بالوجود البشري، لا
سيما في ظل الأنظمة التوتاليتارية التي اجتاحت القرن العشرين
الأنظمة التوتاليتارية والسياسة الزائفة
لقد كانت الأنظمة التوتاليتارية هي
الأكثر قسوة في سحق إنسانية الإنسان، من خلال آلة دعائية ضخمة (البروباغندا) وتطبيق أساليب إرهابية لا حدود لها. هذه الأنظمة
حولت الأفراد إلى أدوات مطيعة وطبقات اجتماعية منسجمة في خدمة أهداف السلطة، حيث
ممارسة العنف السياسي كانت أداة لتحقيق هذه الأهداف التي لا تمت للسياسة الحقيقية بصلة. في
هذا السياق، يصبح من الضروري أن يستعيد الإنسان حريته في السياسة. "الحرية الحقيقية" ترتبط بالفضاء العام والسياسة، لا بالحرية الباطنية التي لا صلة لها
بالشأن العام. كما تقول مليكة بن دودة، "يجب وضع تصور للسياسة يتفكر في مصالح
الناس ويُحافظ على الأرض ويحقق حب العالم كقيمة أخلاقية وسياسية".
من خلال هذه الرؤية، من المهم التأكيد على دور السياسة في بناء مجتمع متنوع ومتضامن،
بعيدًا عن الظواهر اللاسياسية التي تغزو الوجود البشري. إذ لا يمكننا تغيير الواقع
أو مواجهة الظلم والطغيان إلا من خلال السياسية الفعّالة. ففي نظرة نبيل فازيو،
"تقوم التسلطية على قتل فكرة التعددية التي تُعتبر من مقومات الشرط السياسي
للإنسان".
الكذب في السياسة: تلاعب بالحقائق
يعتبر "الكذب" أحد أبرز آفات السياسة الحديثة. من خلال التلاعب بالوقائع وتزييف
الحقائق، تستفيد الأنظمة السياسية من هذه الظاهرة في تمرير أجنداتها. كما يلاحظ
فيليب هانس في كتابه "الكذب هو أداة مهمة لعمل رجل الدولة"، حيث أصبحت
السياسة في كثير من الأحيان محكومة بالكذب على المواطنين، ما يعمق الفجوة بين
المواطن والسلطة.
إن وسائل الإعلام التي يفترض أن تدافع
عن الحقيقة، كثيراً ما تصبح في صف السلطة، ما يساهم في نشر الأكاذيب وتكرارها حتى
تصبح وكأنها الحقيقة. وهكذا، ينقلب عالم السياسة إلى ميدان لا تعرف فيه الحقيقة من
الزيف. يُمكن اعتبار الكذب في السياسة وجهًا من أوجه التسلط السياسي، حيث تروج
الأنظمة للوقائع التي تخدم مصالحها على حساب الحقيقة. كما أكد الفيلسوف فريديريك
نيتشه: "كذبة واحدة تحتاج عشرين كذبة أخرى لتأكيدها".
خاتمة
إن العلاقة بين السياسة والحقيقة غالبًا ما تكون متشابكة، حيث
تُستخدم الأكاذيب كأداة لصالح الأنظمة السياسية. ومع ذلك، لا ينبغي أن يُحكم على
السياسة من خلال هذه الأكاذيب، بل يجب أن تُعتبر مجالًا لتحقيق التعددية والحرية.
كما تقول حنة أرندت، "إذا أردنا التحدث عن السياسي اليوم، يجب البدء بالأحكام
المسبقة التي نتغذى منها جميعًا فيما يتعلق بالسياسة".
المراجع:
1.مليكة بد دودة، فلسفة السياسة عند حنّة
أرندت، دار الأمان، الرباط، ط1، 2015، ص 160.
2.نبيل فازيو، التسلطية والانتقال الديمقراطي، ملف بحثي الصفح والمصالحة، تقديم:
حسن العمراني، مؤمنون بلا حدود، 2014، ص 84.
3.فيليب هانس، حنّة أرندت: السياسة والتاريخ والمواطنة، ترجمة: خالد عايد أبو
هديب، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ط1، بيروت، 2018، ص 160.
4.حنة أرندت، ما
السياسة؟، ترجمة: د. زهير الخويلدي، تحقيق: سلمى بالحاج مبروك، دار الأمان،
الرباط، ص14.