هوبز والتنين: فلسفة الحكم المطلق في مواجهة الفوضى

سعيدة مهير
المؤلف سعيدة مهير
تاريخ النشر
آخر تحديث
هوبز والتنين: فلسفة الحكم المطلق في مواجهة الفوضى

كان توماس هوبز (1679_1588) فيلسوفاً دقيقاً في مجال الفلسفة السياسية، ابن عصره وهو الذي عاش تقريبا قرن ( إحدى وتسعين سنة), تشبع  بالعلم النامي في القرن السابع عشر،" لقد كان هوبز في القرن السابع عشر ’ بعبع‘ عصره, فقد أطلق عليه معاصروه اسم ’وحش مالسبري‘ ( وهي مسقط رأسه) ووصفه رجال الدين بأنه (زعيم الملاحدة ورسول الكفر) وهو مصدر إزعاج في البلاد لا حد له... ومن هنا فقد حرمت كتبه ولعنت في الكنائس، وأحرقت علناً، حتى أن جامعة أكسفورد حرّمت قراءة أو تداول مؤلفاته..."([1])

 

 الحكم المطلق والتعاقد الاجتماعي


    يظهر أن هوبز كان يسعى إلى النظام السياسي وإحلال السلم الاجتماعي، إلا أنه كانت معارك على المستوى الفكري. يعتبر كتاب " اللفياتانمن أعظم ما كتبه، فقد دافع فيه بشدة عن مسألة الحكم المطلق؛ من أجل السلم ومن أجل الخروج من حالة الطبيعة التي امتازت بالحرب والفوضى حيث حرب الكل ضد الكل. وبالتالي للخروج من هذه الحالة أي الحالة الطبيعية على الناس الاتفاق فيما بينهم على إبرامِ عقد.

 

   إن المجتمع ثمرة اصطناعية متفق عليها، إلا أن بنود هذا العقد ليس الملك طرفا فيه، فهو بين الأفراد الذين أخذوا قرار أن يكون الملك على رأسهم. فالفرد يتخلى عن حقوقه للدولة مقابل حمايته وتحقيق الأمن، لذلك ينتقد هوبز مسألة فصل السلطات لأنه يدافع وبقوة عن السيادة المطلقة، لأنه حسبه تحقيق الخير لشعبه؛ لا ينفصل عن تحقيق خيره ( الأمير). الطبيعة عند هوبز جعلت الناس متساويين فيما يخص القدرات الجسدية والفكرية.

 

 إلا أن حالة الطبيعة يعيش الناس فيها بدون آمان حيث يقول توماس هوبز في الفصل المعنون في حالة الجنس البشري الطبيعية، فيما يتعلق بسعادته وبؤسه من كتابه اللفياتان: " ...ولا فنون ولا آداب، ولا مجتمع والأسوأ من هذا كله وجود خوف متواصل وخطر وموت عنيف، وكون حياة الإنسان وحيدة بائسة بغيضة قاسية وقصيرة".([2]) لأنه في حالة الطبيعة لا توجد الخطيئة والجريمة، الصواب والخطأ، الظلم والعدل. نظراً لأنه لا يوجد قانون الذي لا يسن إلا بالاتفاق بين بني البشر على الشخص المشرع، كذلك في حالة الطبيعة لم تكن هناك ملكية خاصة، وما هو ملك للإنسان يحصل عليه بقدراته وصراعه من أجل الاحتفاظ به.

 

 فبمقتضى الحق الطبيعي الإنسان يفعل ما يحلو له يستعمل حريته في استخدام القوة من أجل الدفاع عن نفسه لكي يحافظ على حياته. الإنسان في حالة الطبيعة يأخذ حقه عن طريق القوة، في حالة الإنسان الطبيعية يحكم عقله لكي يحفظ بقائه يقول هوبز: " في حالة كهذه يملك كل إنسان الحق على كل شيء، بما فيه الحق على جسد الآخرين".([3])هذه الحرية التي تخول للإنسان فعل أي شيء في الحالة الطبيعية هي ما تجعل الكل في حالة حرب، لذلك كي يحل السلام على الإنسان أن يتخلى عن حقوقه خاصة ما يتعلق بمسألة الحرية في فعل أي شيء، والأمر يكون إما بالتخلي أو بالتفويض.

 

  يؤكد هوبز على أن الإنسان الذي يتخلى بكامل إرادته عن حقه لا ينبغي أن يتراجع، لأن في رجوعه ظلم وضرر وعبثية؛ لأن الغاية من التخلي أو التفويض هي تحقيق الخير الذي في الغالب يكون عام. وإذا كان هذا الحق تفويضا يسميه هوبز عقد حيث يقول: " إن التفويض المتبادل للحقوق هو ما يسميه الناس عقدا".([4]) هذه الحقوق إذا احتفظ بها البشر يعني دوام الفوضى واللانظام.


 في رأي هوبز الاتفاقيات البعيدة عن السيوف؛ لا تثير خوف البشر، ليست قوة رادعة، فالسلطة وحدها القادرة على توفير حماية وتحقيق السلم. فنشوء الدولة يتطلب إقامة سلطة التي تحدث باتفاق بين الأفراد، فالدولة ما هي إلا اصطناعية ليس وجودها وجود طبيعي؛ فهي نتيجة جمع الأفراد قدراتهم وقوتهم وتفويضها لشخص واحد أو مجموعة أشخاص، فنكون أمام توحيد الإرادات في إرادة واحدة.

 

حسب هوبز: " كما لو كان كل فرد يقول للآخر: إنني أُخوّل هذا الرجل أو هذه المجموعة من الرجال, وأتخلى له أو لها أنت عن حقك وتُجيز أفعاله أو أفعالها بالطريقة عينها".([5]) وبموجب ذلك يخضعون لسلطة الحاكم المطلقة. الحاكم المطلق ليس طرفاً في العقد، السلطة كيفما كان شكلها تبقى أفضل مقارنة بالمآسي والحروب.

 

 لذلك فحياة الأفراد وحريتهم تحت سلطة الحاكم، والطاعة ينبغي أن تكون للذي يوفر الحماية والأمن، فالحاكم المطلق ما يقترفه يكون بموجب القانون." وحيث إن ما يفرضه الحاكم المُطلق هو بموجب قوة القانون السابق، وليس بموجب سلطته، فهو بالتالي يُصرح بأنه لا يريد إطلاقاً شيئا أكثر مما هو مُستحق بموجب هذا القانون".([6]) الاضطرابات الداخلية هي التي تضعف الدولة وتفككها، وعلى الأفراد الخضوع والطاعة للقانون بالنسبة لمن يعيش في الدولة، إلا أن الخضوع للقوانين مُلزم للأفراد لا للحاكم المطلق، فالحاكم فوق القوانين.

 

" ولما كان هذا الخطأ يضع القوانين فوق الحاكم المطلق، فهو يضع أيضا قاضيا فوقه، أي قدرة على معاقبته، مما يعني إقامة حاكم مطلق جديد وثالث، للسبب عينه، وهكذا دواليك، ودونما نهاية حتى الوصول إلى الفوضى وإلى حل الدولة ".([7]) فالفائدة التي تكمن في القوانين هي توجيه وإرشاد الأفراد لكي لا يسببوا الضرر تجاه أنفسهم واتجاه الآخرين، كما على الحاكم أن يختار المستشارين البارعين المتشبعين بالمعرفة التي تضمن السلم وتتفادى الاضطرابات التي قد تحدث.


 حرب الكل ضد الكل:


  إذن الغرض من عدم خضوع الحاكم للقوانين هو تجاوز العودة إلى حالة الحرب، حتى لو كان الحاكم طاغية بهذا المعنى فهو أفضل من الفوضى والحرب. ومنح هوبز الحاكم الحق في مراقبة ما يُنشر من الكتب التي قد تحتوي بين ضفتيها تحريضاً ضده، لأن ذلك يهدد وجود الحاكم. إن الدولة كيان اصطناعي يصنعها الإنسان، لذلك، نتساءل عن الحالة التي كان يعيشها الإنسان قبل وجود الدولة؟  كان قانون الغاب هو السائد، الضعيف يعيش تحت رحمة القوي، حيث الإنسان أناني، حريته مطلقة؛ يسعى إلى تحقيق رغباته حتى وإن كانت على حساب الآخرين.

 

 الأفراد متساويين في حالة الطبيعة لذلك كان يحدث تصادم بين الإرادات، فتنشب الحرب، في حالة الطبيعة غياب للقانون المنظم لحياة الناس، أسباب الصراع متعددة من ذلك المساواة في قدرات الجسد والذهن حتى في الأهداف المراد تحقيقها. فمن وجه نظر هوبز: "فكل الناس سواسية ولكل منهم قوة طبيعية بما يكفي لقتل الآخر. والضعف يعوض بالقوة وفي حالة انعدام الأمن تتساوى الاحتمالية في رغبة القتل عند الجميع. فالعلة تدعو إلى وجود للدولة في توفير الأمن للفرد الذي يشعر بعدم الأمن من الجميع وأنه مهدد من الآخرين".([8]) من الأسباب أيضا الرغبة في نفس الشيء وغالبا ما يكون نادراً وكل واحد هو بأمس الحاجة له، لذلك؛ الأمر سيحل بالصراع من أجل الحصول عليه. أيضاً النزوع إلى الحرب من أجل إثبات الذات والحصول على قيمة واحترام الآخرين، وبالتالي السعي إلى الهيمنة والسيطرة مما يؤدي إلى انعدام الثقة، لأنه لا توجد سلطة سياسية قوية، فالجميع سواسية، فأي شيء يحقق مصلحته يكون في نظره فعل عادل.

 

 في غياب المجتمع المدني ينساق الإنسان لأهوائه وانفعالاته وهي كما سبق الذكر ليست خطيئة، فهوبز عاش الحرب الأهلية والاضطرابات. فبدأ يفكر في الشروط العقلية التي بواسطتها يتم تحقيق السلام، من ذلك قيام سلطة عامة يخاف الجميع منها، ووضع قوانين صارمة تردع كل من أراد أن يهدد الأمن ويعتدي على الآخرين، لأن الإنسان ذئب لأخيه الإنسان ! على حد تعبير هوبز، في حالة الطبيعة حياة الإنسان وحشية، مُخيفة، وقصيرة.

 

   عارض هوبز العبارة العائدة إلى أرسطو القائلة بأن " الإنسان مدني بالطبع" أو "حيوان سياسي بفطرته"، حيث يرى بأن الناس فعلا لديهم رغبة في الاجتماع مع بعضهم البعض إلا أن المجتمع المدني شيء آخر، فهو قيود وروابط، أما الذي يتمرد ويعصي السلطة خسارته أكثر من الربح الذي سيحققه، لأنه بكل بساطة التمرد على القانون وانتهاكه يؤدي إلى العودة إلى حالة حرب الكل ضد الكل.

 

   إذن العنف عنصر لصيق بالسلطة السياسية بحكم طبيعة الإنسان الشريرة وهو ما حاول الفيلسوف الإنجليزي "توماس هوبز" توضيحه في مؤلفه الشهير " التنين" الذي هو وحش متسلط على كل الوحوش البحرية ويعتبر رمزاً للقوة وانطلاقا من هذا الرمز حاول "هوبز" أن يبرر سيادة القوة في مجال الممارسة السياسية، فرغم أن الدولة نتيجة لعقد مبرم بين المواطنين فإنه يتضمن تنازلاً عن حقوقهم وتعهداً بالخضوع للسلطة.يعتبر الحاكم الشخص الثالث الذي ليس طرفاً في العقد. بحكم أن الإنسان كما يقول هوبز شرير بطبعه فإنه ذئب لأخيه الإنسان بحيث يعيش الجميع في حالة الطبيعة حرب الكل ضد الكل، ولهذا يتحتم في نظر هوبز تأسيس دولة قاهرة ومستبدة على رأسها حاكم قوي كالتنين من أجل ضمان الحقوق الطبيعية.

 


([1]) إمام عبد الفتاح إمام, توماس هوبز فيلسوف العقلانية, دار الثقافة للنشر والتوزيع, ص 19.

([2])  توماس هوبز, اللفياتان الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة؛ ترجمة: ديانا حرب, وبشرى صعب, مراجعة وتقديم: د. رضوان السيد, ط1, هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث "كلمة" ودار الفارابي 2011, ص 135.  

([3]) المرجع نفسه, ص 140.

([4])توماس هوبز, اللفياتان الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة؛ ترجمة: ديانا حرب, وبشرى صعب, مراجعة وتقديم: د. رضوان السيد, ط1, هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث "كلمة" ودار الفارابي 2011, ص142.

 المرجع نفسه, ص 135.([5])

 المرجع نفسه, 226.([6])

([7])  توماس هوبز, اللفياتان الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة؛ ترجمة: ديانا حرب, وبشرى صعب, مراجعة وتقديم: د. رضوان السيد, ط1, هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث "كلمة" ودار الفارابي 2011, ص 322.

([8]) الفعل السياسي  بوصفه ثورة, دراسات في جدل السلطة والعنف عند حنّه آرنت, مجموعة مؤلفين, إشراف وتنسيق: د. علي عبود المحمداوي, تقديم: د. محمد شوقي الزين, دار الفارابي, بيروت, ط1, 2013,ص 589.  

تعليقات

عدد التعليقات : 0