مفهوم الثقافة وتطورها في الفكر الأنثروبولوجي
يتضمن مفهوم الثقافة مجموعة من القيم والأفكار والمعتقدات، هي كل الأمور المكتسبة.
تحتوي على العادات والتقاليد والفنون والأدب واللغة... لأن الإنسان بالإضافة إلى
أنه يتكون من عناصر طبيعية فهو أيضا يتكون من ما هو ثقافي، اجتماعي. فالثقافة
لغويا مشتقة من كلمة "ثقف" والمقصود بها الذكاء والفطنة والحنكة وكذلك
الحذق. في الفكر العامي تعني الثقافة ذاك الشخص الذي يمتاز بالاطلاع الواسع وكثرة
معلوماته.
الثقافة
والإنسان: العلاقة بين البيولوجي والاجتماعي
يشترك الإنسان مع الحيوان فيما هو بيولوجي،
لكن استطاع التفوق عليه بأن يشيد لنفسه مجموعة من القيم والمعارف والقوانين. وذلك
لأنه ينتمي إلى مجتمع يضم مجموعة من الأفراد. بفضل العقل صار الإنسان كائنا
ثقافيا. يعتبر المفكر الأنثروبولوجي الفرنسي كلود ليفي سترواس بأن ما يجعل الإنسان
كائناً ثقافياً هو امتلاكه للغة وقدرته على التواصل مع أفراد المجتمع، فهي الخاصية
التي تميز الإنسان عن باقي الكائنات الأخرى. إن اللغة حسب سترواس ليست مجرد وسيلة
للتواصل، بل لا يمكن الحديث عن إنسانية الإنسان في غيابها.
تصورات
مختلفة للثقافة في الأنثروبولوجيا
في حين اعتبر الأنثروبولوجي الإنجليزي
مالينوفسكي أن الإنسان نقول عنه كائن ثقافي نظراً لأنه ينتمي إلى مجتمع تنظمه
مؤسسات كالأسرة والمدرسة والنوادي، فهو يستخدم جهاز مادي من أجل حماية مصالح
الجماعة. من خلال هذه المؤسسات يلبي الإنسان ضرورياته وحاجاته بأنماط مختلفة.
قدمَت الأنثروبولوجيا تعريفات متعددة للثقافة،
مثلا إدوارد تايلور قال: "إن "الثقافة أو الحضارة، بمعناها
الأنثروبولوجي الواسع، هي ذلك الكل المركب الذي يتضمن المعرفة، والمعتقدات، والفن،
والأخلاق، والقانون، والعادات، وأي قدرات أخرى يكتسبها الإنسان بوصفه عضوًا في
المجتمع". هذا التعريف شامل ويجيب عن سؤال ما الثقافة؟ فالثقافة هي مجموعة من
الأشكال والأنماط السلوكية التي يكتسبها الإنسان بفضل التفاعل الاجتماعي، فهي أيضا
نظام معقد من الرموز والمعاني.
الثقافة
كمنتج إنساني ديناميكي
كل هذه التعريفات سواء التي تعود لكلود ليفي
ستراوس أو مالينوفوسكي وتايلور تشترك في أن الثقافة هي هذا التفاعل الاجتماعي
المعقد، وأنها مكتسبة وليست فطرية، وتتنوع وتتعدد وتختلف من مجتمع إلى آخر. يرتبط
مفهوم الثقافة بمجموعة من القضايا التي لها صلة بالإنسان، والمجتمع وأيضا المعرفة.
لكن المشترك هو اعتبار الثقافة نتاج إنساني هي مجال الإبداع حيث تتطور هي الأخرى
بواسطة العقل البشري الذي جعل الإنسان يرتقي فوق الغرائز الحيوانية كما أن الثقافة
تعبر لنا عن رغبة الإنسان في السيطرة على الطبيعة وتسخيرها لخدمته وتشكيلها تبعا
لإرادته.
اعتبر الفيلسوف الألماني هابرماس الثقافة
جزء من المشروع الحداثي، فهي تعبر عن التنوير والعقلانية فهي مبينة على التواصل
والنقاش العقلاني بين الأفراد داخل المجتمع؛ في فضاء عمومي يعبر عن قضاياهم كما أن
الثقافة هي وسيلة لتجاوز تلك الانقسامات الاجتماعية. وبالتالي في الفلسفة لا يمكن
اختزال الثقافة في بعدها الاجتماعي، بل هي رؤية متكاملة تجسد الإبداع البشري.
التنوع
الثقافي: المشترك والخاص
قد يبدو مفهوم الثقافة معقد قليلا لماذا؟
لأنها متنوعة وفيها ما هو مشترك بين جميع المجتمعات، فالجانب المشترك والذي يعد
عالمي ويشترك فيه جميع المجتمعات من ذلك اللغة. نعرف بأن اللغة نظام متكامل
للتواصل وإن اختلفت من مجتمع إلى آخر، أيضا فيما يخص المعتقدات الروحية والعادات
والتقاليد ( اللباس، الطعام...)؛ فكل المجتمعات لها اعتقاداتها الدينية والروحية.
نفس الأمر يسري على الأخلاق والقوانين، فالثقافات متنوعة تبعا للتاريخ والعوامل
الاجتماعية والاقتصادية، كما تختلف المجتمعات في تطورها على المستوى التقني
والعلمي.
الثقافة
والطبيعة: الفارق بين المكتسب والفطري
لكي نفهم مفهوم الثقافة أكثر نقارنها بمفهوم
أساسي وهو الطبيعة، التي تشير إلى ما هو فطري غير مصنع وتتضمن السمات التي تولد مع
الإنسان بعيداً عن الأنشطة الإنسانية. مثل الغرائز البيولوجية كالأكل والنوم
والتكاثر. أيضا الطبيعة تشمل العناصر الفيزيائية والبيولوجية للكون والتي لا دخل
للإنسان في قيامها مثل البحار والجبال والنباتات والحيوانات.
يحاول الإنسان
التأقلم مع الطبيعة من أجل فهمها وكذلك السيطرة عليها، إلا أن قوانين الطبيعة
تابثة لا يمكنه أن يغير قوانينها. وعلى نقيض ذلك الثقافة فهي مكتسبة مصطنعة وتشمل
كل ما قيل أعلاه فالإنسان يتعلمها ويطورها من خلال تفاعله داخل المجتمع فهي ليست
جزء من الطبيعة البيولوجية لذلك فالثقافة تتغير وتتطور بسرعة لأن الإنسان يريد أن
يحسن من نفسه والبيئة التي ينتمي لها.
الثقافة كمجال للإبداع والتفرد الإنساني
إذن الثقافة هي مجال إبداع الإنسان لكي
يعبر عن تفرده وتفوقه على باقي الكائنات، ويحاول تشكيل الطبيعة وفقا لحاجاته. بحيث
يوجد تفاعل بين ما هو طبيعي وكذلك ثقافي. بناء على ذلك فالثقافة تعبر عن ما هو
مكتسب عن طريق التعلم والتفاعل الاجتماعي ، كما أنها مجال إبداع الإنسان بواسطة
العقل الذي يميزه عن باقي الكائنات الأخرى.