السعادة في الفلسفة: "بين الحكمة، اللذة، والتحكم بالعواطف"

سعيدة مهير
المؤلف سعيدة مهير
تاريخ النشر
آخر تحديث
السعادة في الفلسفة: "بين الحكمة، اللذة، والتحكم بالعواطف"

تُعرَّف السعادة بشكل عام بأنها شعور بالطمأنينة والارتياح والرضا والفرح، نابع من تحقيق الفرد لأهدافه وتمتعه بحالة نفسية مستقرة ومتوازنة. تتنوع مفاهيم السعادة باختلاف السياقات الثقافية والفلسفية والدينية، إلا أنها تجتمع حول محور أساسيالإحساس بالرضا عن الذات والحياة.


تُعد السعادة الغاية الأسمى للحياة الإنسانية، كما عبّر عنها الفيلسوف اليوناني أرسطو بقوله"السعادة هي غاية الحياة، وتتحقق من خلال العيش بفضيلة." منذ أقدم العصور، كانت السعادة هدفًا رئيسيًا يسعى الإنسان لتحقيقه، لأنها تمنحه معنى لحياته. كل الأفعال التي يقوم بها الإنسان تهدف في جوهرها إلى بلوغ السعادة، إلا أن هذا الشعور غالبًا ما يكون مؤقتًا ولحظيًا؛ فسرعان ما يبحث الإنسان عن مصدر جديد لإشباع رغبته في السعادة. هذا السعي المستمر يجعل السعادة تبدو أشبه بسراب، تبدو قريبة وفي الوقت نفسه بعيدة المنال.

السعادة مفهوم متعدد الأوجه، يختلف تعريفها من شخص لآخر تبعًا لأولوياته وتصوراته. فهناك من يجد السعادة في المال، وآخر يراها في الشهرة، بينما يشعر البعض بأنها تكمن في الحب والعلاقات العاطفية. هذا التباين يجعل رحلة البحث عن السعادة مستمرة ودائمة، لكنها قد تتحول أحيانًا إلى مطاردة مرهقة حين يركز الإنسان على المستقبل المجهول على حساب الحاضر.

يكمن الحل في تحقيق التوازن: تقبل اللحظة الحالية والعيش فيها بوعي، مع السعي لتحسين ظروف الحياة دون الوقوع في فخ المثالية التي تجعل السعادة هدفًا بعيد المناليمكن القول إن السعادة هي إحساس بالكمال والرضا، يتحقق عندما يندمج الإنسان في مجتمعه، وينسج علاقات إيجابية مع الآخرين. هذا التفاعل يساعد الفرد على تحقيق الانسجام مع محيطه، بالإضافة إلى التوازن بين رغباته وإمكاناته، مما يعزز الشعور بالرضا والطمأنينة النفسية.

مفهوم السعادة هو من أكثر المواضيع التي أثارت اهتمام الفلاسفة عبر العصور، حيث تم تناوله من زوايا متعددة وفقًا لتوجهاتهم الفلسفية المختلفة. وفقًا لما ورد في معجم لالاند الفلسفي، تُعرف السعادة بأنها حالة من الرضا والتوازن الداخلي، يصل إليها الإنسان عندما يتمكن من تحقيق أهدافه وتطلعاته الكبرى.

لا يقتصر تعريف السعادة على إطار واحد، بل يتنوع تبعًا للفلسفات المختلفة. فقد ترتبط السعادة عند البعض بـاللذة وتحقيق المتعة، بينما يراها آخرون مرتبطة بـالفضيلة كغاية سامية للحياة. كما أن السعادة قد تُعزى إلى عوامل خارجيةهذا التنوع في تفسير السعادة يعكس مدى عمقها وتعقيدها كمفهوم فلسفي واجتماعي، ويؤكد أن السعادة ليست معطى ثابتًا بل تجربة ذاتية تتشكل بفعل التطلعات الشخصية والثقافة والمجتمع.


السفسطائيون: السعادة بين النسبية والمنفعة


السعادة في فلسفة السفسطائيين تكتسب بعدًا مختلفًا مقارنة بالفلسفات الأخرى مثل الأبيقورية و الرواقية، حيث لم يطور السفسطائيون نظامًا فلسفيًا متكاملًا حول السعادة، بل كانت أفكارهم مرتبطة بنسبية الحقيقة والمعرفة وتركز بشكل أساسي على فن البلاغة و الجدل.


السفسطائيون، الذين ظهروا في اليونان القديمة خلال القرن الخامس قبل الميلاد، مثل بروتاغوراس و جورجياس، كان لهم توجه خاص في فهم السعادة. فقد رأوا أن السعادة نسبية، أي أنها تختلف من شخص لآخر بناء على المفاهيم الشخصية و الظروف الاجتماعية. بمعنى آخر، لا توجد سعادة مطلقة أو عالمية تتفق عليها جميع البشر، بل تتشكل حسب القيم و المصالح التي يعتنقها كل فرد.

الفلاسفة السفسطائيون اهتموا بتعليم البلاغة و التأثير على الآخرين من خلال الجدل والإقناع، فكانوا يرون أن السعادة يمكن أن تتحقق عندما يمتلك الشخص القدرة على إقناع الآخرين والهيمنة على النقاشات العامة، وبالتالي التأثير على الحياة الاجتماعية والسياسية. في هذا السياق، يمكن اعتبار السعادة لديهم تأثيرًا اجتماعيًا و شخصيًا يعتمد على تحقيق المنفعة الفردية من خلال المهارات البلاغية.

الانتقادات التي وُجهت لهذه الفلسفة تعود إلى نسبية السعادة، حيث اعتبر البعض أن هذه النظرة قد تؤدي إلى التشكيك في القيم الأخلاقية، لأن السفسطائيين لم يروا أي مبدأ ثابت أو ثابت للسعادة.

بناءً على ذلك، أكد السفسطائيون مثل بروتاغوراس و جورجياس على نسبية السعادة، حيث اعتبروا أن القيم الأخلاقية، بما في ذلك السعادة، تختلف من شخص لآخر وتعتمد على الظروف الشخصية والمصالح الفردية. بالنسبة لهم، كانت السعادة مرتبطة بما يحقق راحة الفرد و مصلحته الشخصية دون اعتبار لمبادئ أو معايير أخلاقية ثابتة. فالفلسفة السفسطائية ترى أن السعادة لا ترتبط بمفاهيم مطلقة مثل الخير أو العدالة، بل تتعلق بشكل أساسي بقدرة الفرد على تحقيق منافعه الخاصة.

السفسطائيون لم يهتموا بتعريف السعادة كحالة مطلقة، بل جعلوها تعتمد على القدرة على التفكير المنطقي و الإقناع. إذ كانوا يعطون أهمية كبيرة لتعليم فن الخطابة وفن الجدل لطلابهم كوسائل للوصول إلى النجاح الاجتماعي والسياسي، وبالتالي تحقيق السعادة. من هذا المنظور، كانت السعادة لديهم تتطلب التمكن من الأدوات البلاغية والعقلية التي تسمح للفرد بالهيمنة على الحوار الاجتماعي و تحقيق أهدافه الشخصية.

 

السعادة في الفلسفة اليونانية: من سقراط إلى أرسطو


سقراط كان يرى أن العقل والحكمة هما أساس السعادة الحقيقية. في فلسفته، كانت المعرفة الذاتية من أولويات الإنسان، حيث كان يردد مقولة "اعرف نفسك"، مما يعني أن الفهم العميق للذات هو الطريق لتحقيق السعادة. بالنسبة لسقراط، الجهل هو أكبر عائق أمام السعادة، إذ كانت الحكمة هي السبيل للوصول إلى سعادة دائمة وثابتة.

من وجهة نظره، السعادة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالمعرفة. كان يعتقد أن الشخص الذي يدرك الحقيقة ويعيش وفقًا لها يعيش حياة سعيدة بطبيعتها. هذه المعرفة تقوده إلى اتخاذ القرارات الصحيحة، مما يساهم في حياة متوازنة ومستقيمة. لذلك، كان سقراط يعتبر الفلسفة الطريق الرئيسي لتحقيق السعادة، حيث تعلمنا كيف نعيش بشكل صحيح.

على عكس الفلاسفة الذين ربطوا السعادة بالظروف الخارجية مثل المال أو الشهرة، كان سقراط يؤمن أن السعادة الحقيقية تنبع من الداخل. كانت السعادة عنده حالة نفسية ثابتة لا تتأثر بالمصاعب أو المتغيرات الخارجية، بل هي نتيجة للانسجام الداخلي والالتزام بالقيم الأخلاقية. كان سقراط يرفض فكرة السعي وراء المتع الجسدية كوسيلة لتحقيق السعادة. ويوضح أن التعلق بالملذات المادية يؤدي إلى العبودية لها، مما يعوق الشخص عن الوصول إلى سعادته الحقيقية التي تنبع من الحكمة والفضيلة.


بناءً على فلسفة سقراط، السعادة ليست مجرد لحظات من الراحة أو المتعة، بل هي حالة مستمرة من الاستقامة والتوافق الداخلي، تتحقق من خلال الحكمة والعيش وفق المبادئ الأخلاقية.

انتقد 
أفلاطون  الموقف السفسطائي، حيث رأى أن السعادة الحقيقية لا يمكن أن تكون نسبية أو قائمة على النجاح الشخصي المؤقت، بل إنها ترتبط بـ العالم المثالي و الحقائق المطلقة التي لا تتغير. وفقًا له، السعادة الحقيقية تتحقق من خلال الفضيلة و المعرفة المطلقة، وهو ما يختلف عن الرؤية السفسطائية التي تقبل التغيير والتأثر بالأوضاع الاجتماعية والمصالح الشخصية.

رأى الفيلسوف أفلاطون أن السعادة تتحقق من خلال تحقيق التناغم والانسجام بين قوى النفس الثلاث: 
الغضبية التي تعبر عن الشجاعة والانفعال،الشهوانية المرتبطة بالرغبات والاحتياجات الجسدية، والعاقلة التي تمثل العقل والحكمة. بالنسبة لأفلاطون، السعادة ليست مجرد حالة فردية، بل تمتد إلى المجتمع؛ فعندما تسود العدالة، يُتاح للأفراد تحقيق التوازن بين هذه القوى، مما يؤدي إلى سعادتهم بشكل شامل.

أما تلميذه 
أرسطو، فقد ركز على مفهوم الفضيلة كشرط أساسي للسعادة. وأكد أن السعادة تتحقق من خلال العيش وفق الفضيلة، التي تعني التوسط بين طرفي الإفراط والتفريط. على سبيل المثال، تُعتبر الشجاعة عند أرسطو فضيلة لأنها تقع في نقطة وسطى بين التهور كإفراط والجبن كتفريط.

هذا الاختلاف بين أفلاطون وأرسطو يظهر تنوع الرؤى الفلسفية للسعادة؛ ففي حين يركز أفلاطون على الانسجام الداخلي والعدالة الاجتماعية، يرى أرسطو أن السعادة هي ثمرة السلوك الأخلاقي المتوازن القائم على الفضيلة.

المدرسة الكلبية: الزهد كأساس للسعادة


في المدرسة الكلبية، تتجسد السعادة في التحرر من الرغبات المادية والعودة إلى حياة البساطة التي تتماشى مع قوانين الطبيعة. كان ديوجين الكلبي من أبرز رموز هذه المدرسة، حيث تبنّى مبادئ مؤسسها أنتيسثينيس، متمردًا على القيم الاجتماعية التقليدية ورافضًا للمظاهر المادية.

جسد ديوجين الفلسفة الكلبية بأسلوب حياته الزاهد؛ إذ عاش في فقر مدقع وسكن داخل برميل، متخليًا عن الكماليات التي يعتبرها المجتمع ضرورية. عندما عرض عليه الإسكندر الأكبر مساعدته، ردّ عليه ساخرًا بأن يبتعد قليلاً لأنه يحجب عنه الشمس، مشيرًا إلى أن احتياجاته بسيطة ولا تخضع للسلطة أو الثروة.

السعادة في هذه الفلسفة ترتبط بالتحرر الكامل من القيود الاجتماعية والرغبات المادية، مما يمنح الإنسان حرية داخلية حقيقية. ركز الكلبيون على الانسحاب من الحياة الاجتماعية التقليدية والعيش وفقًا للطبيعة والفضيلة. أحد أشهر مواقف ديوجين تمثلت في تجوله نهارًا حاملاً مصباحًا مضاءً، قائلاً إنه يبحث عن "إنسان"، في إشارة إلى غياب الفضيلة والصدق في المجتمع.

فلسفة أبيقور: السعادة بين اللذة والاعتدال


رأى أبيقور أن اللذة هي المبدأ الأساسي وغاية الحياة السعيدة، ووضعها في مرتبة الحكمة الإنسانية. في فلسفته، تُعتبر اللذة مفتاح تحقيق السعادة، لكن أبيقور شدد على ضرورة التوازن والاعتدال، محذرًا من الإفراط في الملذات الحسية لأنها قد تؤدي إلى معاناة بدلاً من السعادة.

بالنسبة لأبيقور، السعادة هي الغاية النهائية للوجود البشري، وهي حالة لا يرغب أحد في الابتعاد عنها. يُعرِّف أبيقور السعادة بأنها التحرر من الألم الجسدي والاضطرابات النفسية، حيث تكون اللذة هي الخير الأسمى، ولكن بشرط أن تحقق الراحة الجسدية والسلام الداخلي.

لتوضيح هذا المبدأ، قسّم أبيقور اللذات إلى نوعين:

 اللذات الطبيعية والضرورية، مثل الأكل والشرب والنوم، والتي يجب إشباعها بشكل معتدل للحفاظ على الحياةاللذات غير الطبيعية وغير الضرورية، مثل السعي وراء الشهرة أو الثروة، والتي غالبًا ما تكون وهمية وتؤدي إلى القلق والتعاسة.

ركز أبيقور أيضًا على ضرورة التخلص من المخاوف التي تعيق السعادة، مثل الخوف من الموت أو الآلهة، معتبرًا أن الحياة البسيطة والمتوازنة هي المفتاح لحياة سعيدة. ورغم انتقاد البعض لفلسفته، معتبرين أنها تشجع الإفراط في اللذات الحسية، إلا أن أبيقور دعا إلى حياة تقوم على الاعتدال والحرص على تجنب الألم النفسي والجسدي.

أكد أبيقور على أن اللذة تمثل الخير الأسمى في الحياة، لكنها ليست مجرد سعي وراء الملذات الحسية العشوائية. بل شدد على ضرورة أن تكون اللذة وسيلة لتحقيق الراحة النفسية والجسدية، مشيرًا إلى أهمية الاعتدال والتوازن في إشباع الرغبات.


الرواقية: السعادة في التحكم في العواطف والعقلانية


تناول الفلاسفة الرواقيون مثل زينون وسينيكا وإبكتيتوس وماركوس مفهوم السعادة من زاوية متميزة، حيث اعتبروا أن السعادة لا تُكتسب من الخارج أو من اللذات الحسية، بل هي حالة نفسية داخلية ترتبط بالعقل والفضيلة. وفقًا لفلسفة الرواقيين، فإن السعادة الحقيقية لا تعتمد على المال، الشهرة، أو الممتلكات، بل هي نتاج التحكم في العواطف والتفكير العقلاني، مما يعني أن الإنسان يجب أن يسعى لتحقيق التوازن الداخلي بعيدًا عن التأثيرات الخارجية.

أوضح الفلاسفة الرواقيون أن العواطف السلبية مثل الخوف، الحزن، القلق، والغضب تعتبر عوائق أساسية أمام تحقيق السعادة، لأنها تُفسد صفو الراحة النفسية وتُضعف القدرة على التحكم في الذات. ومن ثم، فإن السعادة تكمن في التحرر من هذه العواطف السلبية من خلال التمرن على ضبط النفس والعقل.

تشدد المدرسة الرواقية على العيش وفق الطبيعة وفهم قوانينها، حيث يرى الرواقيون أن الإنسان يجب أن يتكيف مع الظروف التي لا يمكنه تغييرها ويقبل الأمور التي هي خارج إرادته. يؤكدون أيضًا على أن الإنسان قادر على التحكم فقط في أفعاله وأفكاره، بينما الأمور التي لا يمكنه التأثير عليها، مثل الأحداث الطبيعية أو تصرفات الآخرين، يجب أن يُقبل بها بهدوء. في هذا السياق، السعادة وفقًا للرواقيين هي السلام الداخلي والقدرة على الانسجام مع الطبيعة والعقل الكوني.

الشخص السعيد في الفلسفة الرواقية هو الذي يتمكن من الحفاظ على سلامه الداخلي ويظل ثابتًا في الأزمات والظروف الصعبة، حيث يكون قادرًا على التكيف مع التحديات الحياتية بشكل هادئ ومتزن. كما أن الرواقيين يرون أن الانسجام مع العقل الكوني أي القبول بالقوانين الطبيعية والعيش وفقًا لها يعد من أسس السعادة الحقيقية، مما يمكن الإنسان من تحقيق التوازن الداخلي والسلام النفسي بعيداً عن التأثيرات الخارجية.

اعتبر سينيكا، أحد الفلاسفة الرواقين البارزين، أن السعادة الحقيقية تكمن في تقبل الفقر و الموت و القدَر بكل هدوء وسكينة. في فلسفته، شدد على ضرورة تقبل الحياة كما هي دون مقاومة لما هو خارج عن إرادتنا، وأكد أن السلام الداخلي هو السبيل للوصول إلى السعادة الحقيقية. من خلال هذه الرؤية، قدم سينيكا مجموعة من النصائح العملية، مثل الابتعاد عن الرغبات المفرطة والتمسك بالقيم الفضيلة، من أجل تحقيق السلام الداخلي.

 

  في المحصلة، فإن الفرق بين السعادة الأبيقورية و السعادة الرواقية، فهو يتجلى في مفهوم اللذة. فالفلسفة الأبيقورية ترتبط بمفهوم اللذة المعتدلة، حيث يُنظر إلى السعادة على أنها تحقيق اللذة مع التقليل من الألم والمعاناة. بينما الفلسفة الرواقية تركز أكثر على أهمية السلام الداخلي و العيش وفق العقل و القدرة على التحكم في العواطف. الرواقيون يرون أن السعادة لا تتأثر بالظروف الخارجية، بل هي ثمرة التناغم بين العقل و الطبيعة و الفضيلة، حيث يؤدي هذا التوازن إلى السلام النفسي المستدام.

تعليقات

عدد التعليقات : 0