يُعدّ التصوف أحد المسارات الروحية في الإسلام غايته التقرب من اللهK يساعد على أن يتحرر الإنسان من الدنيا والانغماس في ملذاتها. حيث ذهب عدد من العابدين الزاهدين إلى الابتعاد عن قشور، ومظاهر العبادة الظاهرية وركزوا على الجوانب الجوانية الروحانية من أجل الحصول على محبة الله. في البداية بدأ التصوف كحركة تدعو إلى الزهد ولكن فيما بعد تطور وأصبح يحمل فكرة العشق الإلهي لأن أغلب المتصوفة توصلوا إلى أن الحب هو الطريق الأسمى للتقرب من الله.
التصوف في عمقه وجوهره هو مسعى لتصفية النفس،
وإرشاد القلب وتوجيه العقل نحو الله، وتحرير الإنسان من التعلق
بالدنيا. وبناء على ذلك برزت أم العشاق وإمامة العارفين رابعة
العدوية تعتبر شهيدة العشق الإلهي رابعة العدوية من الأسماء
اللامعة وأعمدة التصوف الإسلامي، فهي من أوائل المتصوفين، وأول من أسس وركز على
مفهوم الحب الإلهي الخالص والمنزه. زهدت رابعة العدوية في الحياة عُرفت بورعها
وتفرغها للعبادة، عرفت عدة صعوبات في حياتها لأنها فقدت والديها في سنواتها
الأولى، كرست حياتها للعبادة والتأمل والتفرغ من كل ما قد يشغلها.
لم تتزوج رابعة العدوية،
فأي شيء قد يجعلها متعلقة بيه غير الله؛ فهي رافضة له، فالله هو الحب والحب منه
وإليه. لطالما قالت واعترفت رابعة العدوية بأن العبادة ينبغي أن تكون بدافع
الحب الخالص لله. وليس لأنها تخافه أو ترغب في جنته بل محبة له وكرامة لوجهه
الكريم. ومعنى كرامة لوجهه الكريم: غالباً ما يتم استخدام
هذه الكلمات في ما هو ديني وروحي، بمعنى تكريما لله عز وجل فكلمة وجهه هي رمز من
رموز الجلال والعظمة الإلهية بناء على ذلك فهي تعني أن ذلك الفعل الذي تقوم
به رابعة أي فعل العبادة فهو يكون بنية التقرب من الله وإرضائه فالفعل يكون من باب
الإخلاص لله وحده.
إخلاصها في الحب
الإلهي، وهي التي قالت: "وعزتك ما عبدتك
خوفا من نارك ولا رغبة في جنتك، بل كرامة لوجهك الكريم ومحبة فيك"...لذلك فقد أكدت على أن العبادة المثالية، هي التي تكون من أجل الله ذاته؛
ليس المحرك هو الخوف أو الرغبة في الجزاء. هذا الصنف من الحب نسميه في التصوف
الإسلامي ’ الحب الإلهي الخالص‘، لقد سعت إلى الله وتعلق قلبها به ويا له من تعلق
رائع! هذا الصنف من الحب الذي نظّرت له وطبقته هذه الرائدة في التصوف
النسائي؛ ساهم بشكل كبير في تطور الفكر الصوفي فيما بعد.
كبار الفلاسفة كإمام العارفين محيي الدين ابن عربي والحسن البصري وغيرهم تأثروا بها. لذلك لا يمكن أن تنكر مساهمتها في الفكر الصوفي ولها العديد من الأشعار والأقوال التي كلها نظمت في حبها لله. لا تزال رابعة العدوية تعتبر من رموز الفكر الصوفي ومصدر إلهام للمحبين لله على مر العصور فهي رمز للحب الإلهي والزهد في الدنيا وملذاتها، فقد تميزت بحبها العميق لله سبحانه وتعالى؛ وارتباط روحي قوي.
فبعدما كانت العبادة تقليدية ومجرد أداء للطقوس بطريقة جافة فكانت هي
الاستثناء، ذابت ذوبان تام في حب الله. لذلك رفضت أي نوع من العشق
البشري وكانت قصائدها وأقوالها تُظهر لنا روح التبتل والتعلق بالخالق
الصمد الواحد.
لقد أكدت على هذا
الصنف من الحب الذي يكون بعيد عن كل شائبة أو رياء ومصلحة. بناءً على ذلك فقد لقبت
"بأم العشاق" ، فعندما تم تلقيبها بشهيدة العشق الإلهي، فذلك تعبير عن
حالة الفناء في حب الله ويعتبر الحب هو مصدر قوتها الروحية. حيث كانت جريئة
وشُجاعة في إدخال مفهوم العشق الإلهي إلى ساحة التجربة الروحية. في شعر الحب الإلهي قد قيلت كلمات لا تقال في
العادة، إلا أن الحب كان صادق. لم تستطع رابعة أن تكتمه، لم تكتف بالتلميح بل
لجأت إلى التصريح بواسطة شعر يعبر عن علاقة روحانية عميقة.
من أقوالها:
"أحبك حبين حب
الهوى**وحبا لأنك أهل لذاك
فأما الذي هو حب
الهوى** فشغلي بذكرك عمن سواك
وأما الذي أنت أهل له**
فكشفك للحجب حتى أراك
فلا الحمد في ذا ولا
ذاك لي** ولكن الحمد في ذا وذاك"
لقد أردت رابعة من خلال هذه الأبيات حب الله وإحسانه إليها، ذلك فهو عز وجل أهل للحب لجلاله وعظمته فهو يستحق عشقها ومحبتها. ما كانت لها أية مطالب في هذه الدنيا فهي تريد معرفة الله والفناء في حبه؛ تريد حب الله بدون سبب وهي غاية المتصوفة جميعا. هو حب للحب وقد قيل في بعض الروايات بأن إمامة العاشقين قد لاحظت رجلا يقبل فتى صغير من أهله، يأخذه بين ذراعيه فقالت له: أتحبه؟ قال نعم، فقالت له: ما كنت أحسب في قلبك موضعا فارغا لمحبة غيره تبارك اسمه، فصرخ الرجل وسقط مغشيا عليه. ..
لقد ناجت سيدة العاشقين الله مناجاة الحبيب لحبيبه؛ قائلة له:" إلهي: أنارت النجوم، ونامت العيون، وغلقت الملوك أبوابها، وخلا كل حبيب بحبيبته، وهذا مقامي بين يديك. هذا الليل قدأدبر، وهذا النهار قد أسفر، فليت شعري أقبلت مني ليلتي فأهنا؟ أم رددتها علي فأعزى؟ فوعزتك هذا دأبي ما أحييتني وأعنتني، وعزتك لو طردتني عن بابك ما برحت عنه لما وقع في قلبي من محبتك".
هذه الأبيات تعكس
لنا عمق التجربة الروحية لإمامة العارفين ، تناجي الله وهي في حالة تساؤل مستمر.
تريد أن يقبل الله منها ما تقدمه من عبادة وذكر وتسبيح. وتظهر لنا هذه القصيدة
إصرارها على التمسك بحب الله مهما كانت الظروف والرد. هي هنا لا تعطي أهمية
للمظاهر أو شكليات العبادة، بل تعبر عن جوهر وعمق الصلة القلبية بين
الخالق والمخلوق، وحبها لله يعلو على كل شيء وهو الذي يعطي معنى لوجودها.
لقد استلهمت رابعة
العدوية أفكارها من التعاليم القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة. وقد أدت تجربتها
الروحية إلى فهم معنى التوحيد والإيمان بالله، رغم أن الحسن البصري كان من أبرز
الزهاد إلى أنه كان يخاف الله؛ لكن رابعة ذهبت بعيداً وركزت على على الحب، لا الخوف
أو الطمع في الجنة. رغم أنها مرت بتجارب قاسية في الحياة، في مرحلة مبكرة من
حياتها؛ لأنها ولدت يتيمة وبيعت كجارية. في الفترة التي عاشت فيها شهيدة العشق
الإلهي كان هناك تفاعل بين عدة ثقافات وفلسفات وأديان إلا أن أفكار رابعة العدوية
هي من عمق تجربتها الروحية واجتهادها الشخصي في التفكر والتأمل حيث تلاشت ذاتها
أمام عظمة الله.
في المحصلة، تعد رابعة العدوية رائدة من رواد التصوف الإسلامي، جادت علينا بمفهوم الحب الإلهي، فهي الشخصية التي نقلت العبادة بسبب الخوف من الله إلى العبادة بسبب محبته لوجهه الكريم ولجلاله وعظمته سبحانه وتعالى. "حبا لأنك أهل لذاك" أي بسبب إحسانه لنا جميعا. تجاوزت رابعة الطموحات الدنيوية أو الطمع في الجنة بل أردات أن تهيم بحب الله ومعرفته.
لقد فرّ الصوفية إلى الله ونجح الحب في التفوق على الكراهية فالمحب لا يكره. ويجعل الإنسان يرى كل شيء جميل؛ فكيف لا والمحبوب هو الله فمن يعرف الله لا يكره يقول ابن القيم الجوزية: "فالنفس لا تترك محبوباً إلا لمحبوب، ولا تتحمل مكروها إلا لتحصيل المحبوب، أو للتخلص من مكروه آخر". يتخلى المحب عن الحب الأدنى من أجل أعلى أنواع الحب، فالله في الفكر الصوفي بشكل عام وفكر شهيدة العشق الإلهي بشكل خاص هو الحب الأعلى، لقد ضحت سلطانة العاشقين بالحب الأدنى طلبا للأعلى.