دوافع المستشرقين للاهتمام بالفلسفة الإسلامية: بين النقد والإبداع الروحي

سعيدة مهير
المؤلف سعيدة مهير
تاريخ النشر
آخر تحديث
دوافع المستشرقين للاهتمام بالفلسفة الإسلامية: بين النقد والإبداع الروحي
حظيت الفلسفة الإسلامية باهتمام كبير من قِبل المستشرقين، وذلك لعدة دوافع أكاديمية وفكرية. أحد الأسباب الرئيسة لهذا الاهتمام هو أن التراث الفلسفي الإسلامي يُعتبر امتدادًا للفلسفة اليونانية، مما دفع المستشرقين إلى إعادة دراسة هذا التراث وتحليله بعمق، خاصة فيما يتعلق بتأثيره البارز على الفكر الغربي.

 إضافة إلى ذلك، قام المستشرقون بعقد مقارنات بين أعمال كبار الفلاسفة الإسلاميين مثل ابن سينا و ابن رشد وبين الفلاسفة اليونانيين مثل أفلاطون و أرسطو. في هذا السياق، كان العديد من المستشرقين يرون أن الفلاسفة الإسلاميين لم يكونوا أكثر من مترجمين أو شارحين للفلسفة اليونانية. ومن أبرز هؤلاء المفكرين أرنست رينان (Ernest Renan)، الذي كان له موقف نقدي تجاه الفلسفة الإسلامية، حيث اعتبرها مجرد تفسير للفكر اليوناني دون تقديم إسهامات فلسفية جديدة.


آراء أرنست رينان في الفلسفة الإسلامية ودورها في نقل الفلسفة اليونانية


كان أرنست رينان (Ernest Renan) أحد المفكرين المثيرة للجدل في القرن التاسع عشر، خاصة فيما يتعلق برؤيته في الفلسفة والدين، وخاصة الإسلام والمسيحية. درس رينان اللغات الشرقية والفلسفة الكلاسيكية، مما مكنه من تحليل النصوص الدينية والفلسفية بعمق، وساهم ذلك في كتاباته حول الفلسفة الإسلامية. في رأيه، كانت الفلسفة الإسلامية في العصر الوسيط مجرد جسر لنقل الأفكار اليونانية إلى أوروبا، حيث اعتبرها تفسيرًا أو إعادة صياغة للفلسفة اليونانية مع بعض التعديلات الطفيفة. في كتابه "مستقبل العلم"، قال رينان"الفلسفة الإسلامية ليست سوى ترجمة للفلسفة اليونانية مع تعديلات طفيفة، وما أُنجز في بغداد و قرطبة لا يمثل ابتكارًا بل مجرد تفسير وإعادة صياغة." هذا التصور يبرز نقده للفكر الفلسفي الإسلامي ويقلل من إبداع الفلاسفة المسلمين في تقديم أفكار جديدة.

كما أن رينان كان يعتقد أن الدين الإسلامي لا يشجع على التفكير النقدي الفلسفي، حيث أشار في محاضراته حول "الإسلام والعلم" إلى أن الإسلام بطبيعته معادٍ للفكر الفلسفي. هذه الآراء ساهمت في تشكيل تصور غربي سلبي تجاه الفلسفة الإسلامية، معتبرة إياها مقيدة وغير قادرة على الابتكار الفلسفي المستقل.

عندما برز فلاسفة مثل ابن سينا و ابن رشد في العصور الوسطى، وجدوا أنفسهم في مواجهة مستمرة مع سلطة الدين، التي كانت ترفض التفكير الحر. في مقالته حول الفلسفة الإسلامية، اعتبر أرنست رينان أن الإسلام يشكل عائقًا أمام العقلانية و الحرية الفكرية. فقد اعتقد أن الفكر الإسلامي لم يكن قادرًا على استيعاب الفكر العقلاني بطريقة حرة ومستقلة، ما جعله يفقد القدرة على التقدم كما فعل الفكر الغربي. كان رينان يرى أن الدين الإسلامي يقف كـ عقبة أمام التطور الفلسفي والعقلاني، مما حد من قدرة الفلاسفة على التفكير النقدي و الابتكار الفلسفي.

وفي كتابه "ابن رشد والرشدية"، أعرب رينان عن إعجابه بـ ابن رشد واعتبره روحًا نادرة في تاريخ الفكر الإسلامي. ورغم إعجابه بقدرات ابن رشد العقلية، إلا أنه رأى أن البيئة الإسلامية لم تكن ملائمة لفكر عقلاني مثل فكره. حسب رينان، كان المجتمع الإسلامي في تلك الفترة غير قادر على استيعاب أو تقدير الفكر العقلاني المتقدم الذي حاول ابن رشد تقديمه.

ومع ذلك، تعرضت آراء رينان للكثير من الانتقادات بسبب تحيزاته الفكرية ونظرته الاستعلائية تجاه الثقافات غير الغربية، وهو ما يعكس التوجهات الفكرية السائدة في عصره. هذه التصورات ساهمت في رسم صورة سلبية عن الفلسفة الإسلامية في الأوساط الأكاديمية الغربية


نظرة المستشرقين للفلسفة الإسلامية: بين الإبداع الروحي والتقليد الفكري


تباينت نظرة المستشرقين تجاه الفلسفة الإسلامية بشكل كبير، حيث كانت تلك النظرة تعكس بشكل واضح الخلفيات الثقافية و الأهداف الأكاديمية والأيديولوجية، بالإضافة إلى الدوافع الاستعمارية التي كانت تسعى لتشويه صورة الفكر الإسلامي. في الغالب، قدم المستشرقون الفلسفة الإسلامية على أنها صراع بين العقل و الإيمان، معتبرين أن الفلاسفة المسلمين كانوا مشغولين بمحاولة التوفيق بين التعاليم الدينية و الفكر الفلسفي. هذا الفهم جعلهم يعتقدون بأن الفلسفة الإسلامية تفتقر إلى الأصالة وأنها لم تكن سوى محاكاة أو تقليد للفلسفة اليونانية.

لكن كان هنري كوربان (Henry Corbin)، الفيلسوف والمستشرق الفرنسي، صاحب نظرة إيجابية ومختلفة تجاه الفلسفة الإسلامية. اشتهر كوربان بعمله العميق في دراسة الفلسفة الإسلامية و التصوف، خاصة التصوف الشيعي والإيراني. في كتابه "الإسلام في إيران"، أكد كوربان أن الفلسفة الإسلامية ليست مجرد محاكاة للفكر اليوناني، بل هي إبداع روحاني ينبع من التقليد الإشراقي الذي يتجاوز العقلانية البسيطة ويشمل أبعادًا روحية عميقة. حيث قال"إن الفلسفة الإسلامية ليست مجرد تقليد أو محاكاة للفلسفة اليونانية، بل هي إبداع روحاني يترسخ في التقليد الإشراقي الذي يتعدى العقلانية البسيطة ويشمل الأبعاد الروحية العميقة."

كما أشار كوربان إلى أن الفلسفة الإسلامية و التصوف لا يقتصران على التفكير العقلاني فقط، بل هما في جوهرهما رحلة روحية للبحث عن الحقيقة، تتجاوز الحدود التي يضعها الفكر العقلاني. وأوضح كوربان في تصريح آخر"الفلسفة الإسلامية والتصوف في جوهرهما ليسا مجرد تفكير عقلاني بحت؛ بل هما رحلة بحث عن الحقيقة، رحلة روحية يتعذر على الفكر العقلاني وحده استيعابها." من خلال هذا التصور، ربط كوربان بين الفلسفة و التصوف، مشددًا على أن الفلسفة الإسلامية تحمل بعدًا روحيًا وعرفانيًا عميقًا لا يستطيع العقل البسيط استيعابه.

تُعتبر أعمال هنري كوربان من أهم المصادر لفهم الفلسفة الإسلامية في سياقها الروحي والعرفاني، حيث ركز في أبحاثه على الأبعاد الروحية والميتافيزيقية التي غالبًا ما كان يتجاهلها المستشرقون التقليديون. كان كوربان يرى أن الفلسفة الإسلامية تحتوي على إبداع خاص يتجاوز العقلانية البسيطة، ويشمل العوالم الغيبية و الميتافيزيقية التي تعجز العقول البسيطة عن إدراكها.


نظرة المستشرقين المتنوعة تجاه الفلسفة الإسلامية: بين النقد والإعجاب


قدمت مجموعة من المستشرقين نظرات نقدية ومتنوعة تجاه الفلسفة الإسلامية. بعضهم مثل جولد تسيهر و رينهارت دوزي اعتبروا أن الفلسفة الإسلامية ازدهرت فقط عندما كانت على صلة وثيقة بـ الثقافات الأخرى مثل الفارسية و اليونانية، بينما تراجعت هذه الفلسفة بسبب جمود المؤسسات الدينية الإسلامية التي أعاقت تقدم الفكر الفلسفي. من بين هؤلاء المستشرقين الذين انتقدوا الفلسفة الإسلامية أو كانت لديهم مواقف معادية لها، يمكن إضافة غوستاف لوبون (Gustave Le Bon)-، الذي كان عالم اجتماع فرنسي ومؤرخ معروف بنظرياته حول العقل الجماعي و سلوك الجماهير.

غوستاف لوبون كان له موقف خاص من الفلسفة الإسلامية والحضارة العربية، وقد عكست آراؤه في كتابه "حضارة العرب". رغم اعترافه بـ المساهمات العلمية والثقافية الهامة التي قدمتها الحضارة العربية في العصور الوسطى، إلا أن لوبون كان منتقدًا من حيث الافتقار إلى الإبداع الفلسفي. في رأيه، كانت الفلسفة الإسلامية مجرد محاكاة للفلسفات الغربية أو اليونانية ولم تتمكن من تقديم إبداع فلسفي أصيل. بينما اعترف بمساهمات العلماء العرب في مجالات مثل الطب و الفلك، إلا أنه اعتبر أن العقل العربي تأثر بشكل أكبر بـ العواطف و العقائد الدينية، مما حد من القدرة على التفكير الفلسفي النقدي.

في الوقت نفسه، كان لوبون يرى أن العقلانية الغربية هي التي قادت الحضارة الأوروبية إلى التقدم العلمي والفلسفي، بينما كانت الفلسفة الإسلامية في رأيه مقيدة و محدودة بسبب تأثير الدين على الفكر الفلسفي.

تباينت مواقف المستشرقين تجاه الفلسفة الإسلامية، حيث كان هناك من أبرز أهمية الفلسفة الإسلامية ومساهمتها في تطوير الفكر الغربي، بينما كان هناك من قلل من قيمتها. ولكن، بشكل عام، يمكن القول إن الاستشراق قد لعب دورًا كبيرًا في نقل الفلسفة الإسلامية إلى الغرب، من خلال الترجمات التي قام بها المستشرقون وأعمالهم الأكاديمية. كان لهم اهتمام خاص بـ ابن سينا، الفارابي، و ابن رشد، إلا أن هذا الاهتمام لم يخلو أحيانًا من وجهات نظر استعمارية، حيث كان يتم النظر إلى الفلسفة الإسلامية على أنها جزء من التراث الشرقي الذي يُعتقد أنه يعارض الفكر الغربي العقلاني. في هذا السياق، اعتُبر الفكر الغربي أكثر تقدمًا من الفكر الإسلامي، الذي تم تصويره على أنه معلق على أنقاض الماضي.

لكن في الفترات الحديثة، بدأت عملية إعادة تقييم الفلسفة الإسلامية بعيدا عن الأحكام المسبقة، خاصة مع هنري كوربان، الذي كان له دور بارز في إبراز الأبعاد الروحية و العرفانية في الفلسفة الإسلامية.
العداء للفلسفة الإسلامية من قبل بعض المستشرقين يعود إلى عدة عوامل تاريخية، فكرية، وثقافية، التي تتداخل مع بعضها لتشكل صورة نقدية مشوهة لهذا الفكر. يمكن تلخيص بعض الأسباب الرئيسية لهذا العداء في النقاط التالية:

المستوى السياسي: كان الغرب يسعى لفرض هيمنته الثقافية والسياسية على الشرق، وكان الاستشراق أداة استعمارية تُستخدم لخدمة الأهداف الاستعمارية الغربية. لذا كان من الضروري تقديم صورة سلبية عن الفلسفة الإسلامية، تُظهرها على أنها فلسفة راكدة أو تقليدية مقارنة بالفلسفة الغربية الحديثة. هذا التصور كان يساهم في تسويغ الهيمنة الغربية على المنطقة الإسلامية.


التطور الغربي: في الغرب، شهدت الفلسفة تطورًا كبيرًا، خاصة في العصور الحديثة، مع ظهور ديكارت و كانط، حيث برزت العقلانية التي ميزت الفكر الغربي. في المقابل، اعتُبر الفكر الإسلامي بعيدًا عن العقلانية و العلمانية بسبب ارتباطه بالدين.


الاختلافات الثقافية والعقائدية: إن انتقاد المستشرقين للفلسفة الإسلامية كان أيضًا نابعًا من التعصب الثقافي، حيث كانت المدارس الفكرية الغربية تتسم بنظرة دونية تجاه الشرق و المجتمعات الإسلامية. هذا التعصب أسهم في عدم التقدير الكامل لإنجازات الفكر الإسلامي، مما جعل المستشرقين يركزون على التشويه بدلاً من التقدير الصحيح للمساهمة الكبيرة التي قدمها الفلاسفة المسلمون في مجال الفلسفة.

خلاصة:


كان العداء للفلسفة الإسلامية نتيجة لعدة عوامل متشابكة، مثل التصورات الاستعمارية، الاختلافات الثقافية والدينية، والتركيز على الفلسفة اليونانية كمرجعية أساسية. بالإضافة إلى ذلك، ساهم الجهل و التصورات المسبقة في ترويج صورة سلبية عن الفلسفة الإسلامية. ومع ذلك، وعلى الرغم من هذا العداء التاريخي، أظهرت العديد من الدراسات الحديثة أن الفلسفة الإسلامية قد قدمت إسهامات فلسفية مبدعة و تأثيرًا كبيرًا على الفكر الغربي، خاصة من خلال الفلاسفة المسلمين الذين ابتكروا مفاهيم فلسفية وروحية تميزت عن الفلسفات الأخرى.

تعليقات

عدد التعليقات : 0