عبد الله العروي، المؤرخ والمفكر المغربي البارز، يعتبر أحد أعلام الفكر العربي الحديث، إذ وُلد عام 1933 بمدينة أزمور، وترك بصمة عميقة في النقاشات الفكرية والفلسفية حول القضايا الكبرى التي تواجه المجتمعات العربية. أبرز إسهاماته تنصبّ حول تحليل الإشكاليات المتعلقة بالحداثة، رغم أنه لم يُخصص لها كتابًا منفردًا، إلا أن مفهوم الحداثة حاضر بوضوح في جميع مؤلفاته الرئيسية مثل: "الإيديولوجيا العربية المعاصرة"، "مفهوم العقل"، "مفهوم الدولة"، و"مفهوم الحرية".
الموروث في فكر العروي
يرى العروي أن الحداثة ليست مجرد مظاهر مادية أو تطورات تقنية، بل هي منظومة فكرية شاملة تستند إلى
العقلانية والتحرر من هيمنة الموروث التقليدي والإيديولوجيات الجامدة. يؤكد العروي
على أن العقل هو الأداة الحاسمة للتحليل والنقد، وهو ما تفتقر إليه المجتمعات
العربية في نظره. فبدون عقلانية نقدية، يصعب تحقيق قفزة نوعية نحو الحداثة التي
تُعد شرطًا أساسيًا للتقدم الاجتماعي والثقافي.
حسب عبد الله
العروي التمسك المفرط بالموروث الثقافي والتقليدي يمثل أحد الأسباب الرئيسية التي حالت دون وصول المجتمعات
العربية إلى الحداثة. فهو يعتبر أن الموروث هو ذلك الماضي الذي يُثقل حاضر العالم
العربي والإسلامي، ويعيق تقدمه. في فكر العروي، يشمل الموروث الجوانب الفكرية،
الثقافية، الدينية، والاجتماعية التي انتقلت عبر الأجيال، بما في ذلك القيم،
العادات، التقاليد، النصوص الدينية، والتراث الفلسفي.
حيث يؤكد العروي على أن
الموروث لا يُمثل فقط جزءًا من الهوية الثقافية للمجتمع، بل يشكل في بعض الأحيان
عائقًا أمام التغيير إذا تم التعامل معه كأيقونة مقدسة غير قابلة للنقد أو المراجعة.
فهو يدعو إلى النظر إلى الموروث بعيون نقدية، لفصل العناصر التي تدعم التطور من
تلك التي تُكرّس الجمود.
كيف يؤثر الموروث على الحداثة؟
بحسب العروي، فإن
الانشغال بالماضي والتمسك به بشكل مفرط يعيق التفكير في المستقبل، مما يؤدي إلى
تعطيل عملية التحديث. فالحداثة تتطلب تحررًا فكريًا يعتمد على العقلانية والنقد، وهي قيم قد تكون
غائبة في التعامل غير النقدي مع الموروث. ينتقد عبد الله العروي تحكم الماضي في حاضر العالم العربي، حيث يرى أن التعامل
مع الموروث يعاني من جمود يعيق المجتمع في مواجهة التحديات المعاصرة. ويشير إلى أن
هذا الجمود يتمثل في التمسك غير العقلاني وغير النقدي بالموروث، مما يمنع تفسيره أو
تكييفه مع متطلبات العصر الحديث. بالنسبة للعروي، فإن هذا التمسك الحرفي بالماضي
هو السبب الرئيسي وراء التخلف، لأنه يعيق عملية التحديث والتقدم.
يدعو العروي إلى قراءة
الموروث بعيون الحداثة، بحيث يتم نقده بوعي
لمعرفة ما يمكن أن يفيد التجربة الإنسانية وما يجب تجاوزه. فالنقد، حسب رأيه، هو الأداة التي تمكننا من التمييز
بين الجوانب التي تُغني الإنسانية وتدعمها، وتلك التي تُشكل عائقًا أمام التطور.
بهذا، يطرح العروي فهمًا ديناميكيًا للموروث، بعيدًا عن الجمود أو التمجيد الأعمى.
على الرغم من دعوته
لتجاوز الموروث المعيق، لا يعني ذلك التخلي عن الهوية الثقافية. بل يرى أن الحفاظ
على التراث المفيد يجب أن يكون في سياق منفتح على الحداثة، بحيث يصبح الموروث
جسرًا نحو المستقبل لا حاجزًا أمامه. أما الماضي، في رأيه، لا يقدم حلولًا جاهزة
للتحديات المعاصرة، بل يمكن أن يتحول إلى عقبة تعرقل التنمية والحداثة إذا لم
نتعامل معه بعقلانية.
عبد الله العروي يعبر عن
قلقه الشديد من التعلق المفرط بالماضي، واصفًا إياه في كتاب خواطر الصباح بقوله: "مخيف هذا التعلق بالماضي"، حيث يرى أن الماضي ليس قادرًا على تقديم حلول ناجعة لمشاكل العالم العربي
الراهنة. بل على العكس، يدعو العروي إلى ضرورة تجاوز الماضي، مفضلًا التقليد
الواعي للغرب على الرجوع إلى تراث عقيم لا يواكب متطلبات العصر. وقد صرح في إحدى
حواراته قائلاً: "فلتمت الأفكار الميتة لكي يحيا الناس"، مما يعكس رؤيته لضرورة التحرر من الأفكار البالية التي تفرض جمودًا على الحاضر
والمستقبل.
يؤمن العروي بأن الطريق
إلى الحداثة يتطلب قطيعة انتقائية مع التراث العربي الإسلامي، وهي قطيعة ليست كاملة أو جذرية، بل
تستهدف الاحتفاظ بما يمكن أن يخدم التحول نحو قيم حداثية كونية مثل العقلانية،
القوانين، والحقوق الفردية. فهو يرى أن الحداثة الغربية هي النموذج الأكثر تطورًا
في التاريخ الإنساني، ويعتبر الفكر الماركسي، بمبادئه التحليلية،
مركزًا مهمًا لفهم التحولات التي قادت الحضارة الأوروبية إلى الحداثة.
ضرورة المرور بجسر الحداثة
يشدد العروي على أن
الحداثة هي مرحلة حتمية لا يمكن تجاوزها أو القفز عليها إلى "ما بعد
الحداثة"، كما فعل الغرب. فبينما ينتقد بعض المفكرين العرب ما بعد الحداثة،
يرى العروي أن العالم العربي لم يدخل الحداثة بعد، مما يجعل هذا النقد غير ذي
معنى. لذلك، يدعو إلى استيعاب الحداثة بشكل عميق وجذري، لا مجرد تقليد سطحي لقشورها، والعمل على تغيير بنية
المجتمع وفكره من خلال اعتماد العقل النقدي كمحرك أساسي للتقدم.
يربط العروي تحقيق
الحداثة بتأسيس دولة حديثة تقوم على العقلانية، المؤسسات العادلة، واحترام الحقوق الفردية. فالدولة
الحديثة ليست مجرد انعكاس لنظام سياسي، بل هي تعبير عن بنية اجتماعية وفكرية قائمة
على العلم، التحرر، والمواطنة.عبد الله العروي في كتابه الإيديولوجيا العربية
المعاصرة يقدم تحليلًا نقديًا للعقل العربي، مشيرًا إلى أنه عقل تراثي انشغل
بالنصوص القديمة وتحليلها دون إخضاعها للنقد أو البحث في ما يخدم الإنسانية. يرى
أن هذا العقل عانى من غياب الحرية التي تُعد ضرورية لجعله فعالًا في المجتمع. فالحرية، بالنسبة له، شرط أساسي
لتمكين العقل من الفحص والتحليل والنقد، وبالتالي المساهمة في بناء مجتمع حداثي.
يرى العروي أن الحداثة في
العالم العربي الإسلامي كانت مجرد تقليد للغرب، تفتقر إلى رغبة حقيقية في التغيير
الجذري، مما أدى إلى فشلها. يعود ذلك جزئيًا إلى الإرث الاستعماري، حيث ارتبطت
الحداثة في أذهان العديد بأنها دخيلة ومرفوضة ثقافيًا، لكونها نتاج المستعمر. هذا
الرفض، كما يشير العروي، كان مغلفًا بدعوات الحفاظ على الموروث، الذي يراه أحد
الأسباب الرئيسية للتخلف. فالموروث، وفقًا له، يمنع المجتمعات العربية من الانفتاح
على الآخر والتفاعل مع العقل الكوني.
ينتقد العروي المنطق
السلفي الذي يتجسد في شخصيات مثل "الشيخ"، التي تدّعي امتلاك الحقيقة
المطلقة وتخشى الانفتاح على الآخر، معتبرةً أنه مصدر للشرور. هذا المنطق، كما
يوضح، يشكل عائقًا رئيسيًا أمام تحقيق الحداثة في العالم العربي. فالعروي يدعو إلى
تحرير العقل العربي من قيود هذا التفكير المغلق الذي يعيق التقدم والتطور.
يشدد العروي على أن
الحداثة ليست ملكًا للغرب وحده، بل هي نتيجة شروط تاريخية خاصة مرت بها المجتمعات
الغربية. ومن هنا، يدعو العروي إلى فهم تلك الشروط بشكل نقدي، وليس مجرد تقليد
التجربة الغربية تقليدًا أعمى. الهدف، كما يوضح، هو بناء حداثة تتلاءم مع السياق
العربي، وفي الوقت ذاته تلتزم بالطابع الكوني لقيم مثل العقلانية والحرية.
في نظر العروي، الحداثة ليست مرحلة جامدة أو وصفة
جاهزة، بل هي عملية ديناميكية تتطلب من المجتمعات العربية أن تقوم بقراءة نقدية لذاتها، وتُعيد تشكيل هويتها
بما يتناسب مع ظروفها الخاصة، مع الحفاظ على ارتباطها بالقيم الكونية للعقلانية
والحرية. فهو يرى أن الحداثة الحقيقية تتطلب التفاعل الواعي مع الواقع المحلي
والسعي لتحقيق التقدم عبر النقد الذاتي والتحرر من الجمود الفكري.
يرى عبد الله العروي أن
وصول العالم العربي الإسلامي إلى الحداثة يتطلب تبني العقلانية كمنهج أساسي لتحليل
الواقع وتجاوزه، مع القطع النقدي مع الموروث التقليدي. يشدد على أهمية التحرر
الفكري لفهم الموروث بشكل نقدي، من أجل التمييز بين ما هو ملائم للعصر الحديث وما
يجب تجاوزه.
يدعو العروي إلى استيعاب الحداثة الغربية من خلال
فهم عميق لمفاهيمها الحديثة في مجالات السياسة، الفكر، والاقتصاد. لكنه يحذر من
نقلها حرفيًا دون مراعاة السياق الذي أفرزها، مؤكدًا أن نجاح الحداثة في العالم
العربي يتطلب قراءة نقدية للتجربة الغربية مع تكييفها بما يتناسب مع الخصوصية
الثقافية العربية.
في الختام، يربط العروي تحقيق الحداثة بضرورة إصلاح المؤسسات وبنائها على أسس
حديثة تعتمد على العقلانية والعلم. كما يؤكد على أهمية تحديث البنية الاجتماعية
والتعليمية، بما يواكب قيم الحداثة مثل الحرية، المساواة، والديمقراطية، لضمان
التفاعل الإيجابي مع متطلبات العصر وتحقيق التقدم المنشود.