يعتبر الحب الإلهي روح التصوف، كانت الحياة قبل ظهور مصطلح الحب الإلهي يحركها عامل الخوف من الله ومن جهنم ومن العقاب، لنا نموذج الحسن البصري (642-728 م / 21-110 هـ) الذي عرف بزهده في الحياة وكان يبكي من شدة الخوف من الله حتى قيل وكأن النار خلقت له لوحده، نشأ في بيئة إسلامية اخذ العلم على يد الصحابة منهم عبد الله بن عباس وأيضا أنس بن مالك. كان مشهورا ببلاغته في الخطابة، دعا إلى الزهد والتأمل وتقوى الله. لذلك فهو يعتبر من الأوائل الذين ابتعدوا عن الدنيا وزينتها واختيار الآخرة. من خلال ذلك نستطيع أن نقول بأن الحسن البصري من الرواد الأوائل في الفكرالصوفي.
لقد كان إذن عامل الخوف هو الحاضر وبقوة، ولكن بعد ذلك نشأ مصطلح " الحب الإلهي" وكثيرا ما يتم ربط هذا المصطلح برابعة العدوية التي قيل بأنها أخرجت التصوف الإسلامي من الخوف إلى الحب. حيث يشير الخضوع لعامل الحب الإلهي في التصوف إلى تجربة روحية فريدة وعميقة, يصبح فيها المتصوف غارقا في حبه لله وارتباطه الكامل معه.
إن الحب هو روح وجوهر التصوف، به يتجاوز
الإنسان ذاته وفرديته ذائبا في محبه سبحانه غير مكثرت للحب المادي، الأرضي، الفاني
والزائل، إلى حب الباقي متجاوزاً كذلك الخوف منه سبحانه أو حتى الرغبة في جنته، بل
هي محبة لوجهه الكريم منه الحب وإليه الحب. إن الصوفي يتوجه إلى
الله بحب غير مشروط بعيداً عن انتظار أي شيء منه تعالى سبحانه، لأن حبه هو الهدف
والغاية.
إن الحب هو
طريق المعرفة، عندما يعرف الصوفي الله ويرى صفاته متجلية في الموجودات، يزداد قربه
من الله، من خلال التأمل في الطبيعة تُفتح أفاق جديدة للتفكير في الله وفي محبته
لمخلوقاته. يحتوي الكون على تنوع كبير في الظواهر والكائنات، إنه تجل من
تجليات الوجود الإلهي. إن القوانين الإلهية تسري في الكون الذي هو تعبير عن وجود
الله، وهذا التأمل العميق في الطبيعة بمعناها الواسع يؤدي إلى حب الله حبا غير
مشروط بمقابل أو مكافأة. كل الكائنات كيفما كانت أشجار أو بشر أو حيوانات...هي
تعبير عن وجود الله.
هذا التنوع الطبيعي في
الكون غير منفصل بل هو متصل بشكل عميق، كل شيء في الطبيعة كما قال الكبريت الأحمر
ابن عربي بأنه متصل مع بعضه البعض بشكل عميق. لأنه يعكس نظاما إلهيا يعبر عن حب
الله. الإنسان يشعر بالتقرب من الله عندما يتأمل في موجوداته في الطبيعة بمعناها
الروحي والمادي. يصف الحاتمي الطائي الأندلسي ابن عربي الكون، بأنه
"كتاب مفتوح" يضم معاني ودلالات؛ لذلك لا بد من قراءة هذا الكتاب
من أجل معرفة وفهم معانيه الروحية العميقة، لأنه مرآة عاكسة لصفات الله.
هذا التأمل في الطبيعة يجعل الإنسان في صلة دائمة مع الله؛ بل ويحس بسلام داخلي ويتواصل مع الرحمن بشكل عميق، في التصوف الإسلامي يعتبر التأمل في الكون وفهم معانيه جزء من الرحلة الروحية، كما أن تأمل الإنسان في نفسه وفي جسده، آيات تحث على محبته عز وجل.
إذا
أحب الإنسان العالم، واعتبر نفسه جزءاً من كيان أكبر وفهم العلاقة التي ينبغي أن
تكون مع الطبيعة التي ينتمي إليها فإن هذا يؤدي إلى التفاهم الروحي. يؤكد الصوفية
على أهمية الرحمة والتعاطف والمحبة مع جميع المخلوقات. فحب العالم وكل ما فيه وفهم
دور باقي الكائنات في هذا النظام الكوني يقود الإنسان إلى العمل من أجل الخير
والحق وحب العالم، لأن الحب هو أساس الخلق. إنه القوة الخفية والظاهرة للبعض التي
أدت إلى خلق الكون؛ جاء في الحديث القدسي: " كنت كنزاً مخفياًّ فأحببت أن
أُعرف، فخلقت الخلق..."، وبالتالي نعرف بأن الحب هو أساس هذا الوجود.
إن الحب في الفكر الصوفي
ليس مجرد عاطفة وشعور، بل هو الطريق الروحي؛ هو حب لا يقتصر على الموجودات، بل
يشمل كل شيء، بداية يحب الإنسان الأشياء المادية؛ إلا أن هذا الحب يتطور ويصيح
حباًّ إلهياًّ، بناءً على ذلك يقوم الإنسان برحلة روحية من الحب المادي إلى عالم
الروح والحب الإلهي؛ إن حب الله هو غاية كل أنواع الحب التي يعرفها الإنسان.
لقد
قيل بأن القلب الذي يعرف الحب لا يموت أبداً، لقد اختار القلب الصوفي
الفرار من الدنيا الفانية، واللجوء إلى الله، لقد ضحوا بالأدنى من أجل الأعلى
والتفرغ لمحبته عز وجل. لقد أحب الصوفية الله حبا صرفا خاليا من كل منفعة، لم يعد
في قلوبهم مكان يتسع لغيره أو مكان للكره؛ تمكن الحب من قلبه. إن الحب الإلهي
موضوع خاص بالصوفية، فالمحبة لها منزلة عالية في الفكر الصوفي؛ الحب شعار
التصوف وزاده، لا أبالغ إذا قلت بأن الحب هو التصوف، ولا يمكن الحديث
عن التصوف أو وجوده بدون الحب.
لقد نسب الصوفية
الحب إلى الله، مثلا ابن عربي الذي يعتبر من أعظم رواد التصوف الإسلامي، فقد استند
في تعريفه للحب والحديث عن سببه وأصله على ما جاء في القرآن الكريم والأحاديث
الشريفة. لقد ورد بأن الله يحب عباده التوابين والمتطهرين، الصابرين، المتوكلين.
وعليه فإن أصل الحب عند ابن عربي هو المحبة الإلهية. لطالما عبر الصوفي عن حبه لله
بطريقة مختلفة وفريدة وأكثر عمقا؛ فالحب الإلهي في الفكر الصوفي يصنف أرقى من أي
علاقة حب دنيوية، الصوفي يعرف بأنه يعبر عن حبه لله بالذكر والتسبيح،
فهو متصل بالله بشكل دائم، لأن ذكر الله وسيلة للتواصل معه سبحانه.
إلى جانب ذلك وكما
سبق وذكرت الزهد في الدنيا، في الحياة المادية، حيث يركز على
الأمور الروحية التي تجعله أكثر قربا من الله؛ لأن في الأمر علامة على تفضيل حب
الله على كل ما هو فاني وزائل. يفنى الصوفي في حب الله؛ يكرس الصوفي
حياته لله ويعيش بالله ولله. لقد خلدوا حبهم لله من خلال الشعر، من ذلك قصائد ابن
الفارض، ورابعة العدوية المعروفة بشهيدة العشق الإلهي، وتبقى طريقة الصوفي التي
تساعده على الانسجام الروحي والانقطاع عن العالم الخارجي هي الخلوة من
أجل التعبد والتأمل. بالإضافة إلى ذلك، يفرض الحب الإلهي أن يسعى الصوفي إلى
صفاء النفس وتنقيتها من كل شائبة، نقي القلب والعقل من أي شيء قد يحول بينه وبين
حب الله.
على وجه
الختام، فإن الحب الإلهي عند أهل التصوف عبارة عن تجربة روحية عميقة، حيث الحب هو
الغاية والهدف، حب الصوفي لله غير مشروط، فهو يتجاوز كل الحدود الدنيوية المادية.