العدالة في الفكر الإغريقي

سعيدة مهير
المؤلف سعيدة مهير
تاريخ النشر
آخر تحديث

العدالة في الفكر الإغريقي

 تساءل سقراط هذا المزعج الأثيني الذي يطرح الأسئلة دون تقديم الأجوبة، يعتبر من أعظم الفلاسفة؛ رغم أنه لم يكتب شيء فقد عرفناه من خلال تلاميذه،أشهرهم أفلاطون. عُرف سقراط بجدله وأسلوبه في توليد الأسئلة والأفكار؛ سقراط ما اعتبر يوما نفسه على دراية بكل شيء، بل اعترف بجهله رغم حنكته وحكمته قال: " كل ما أعرفه هو أني لا أعرف شيئا! هذا طبعا يعكس لنا قمة تواضعه وفكره النقدي ورغبته الدائمة في التعلم.


لسانه وقوله الحق أدى إلى محاكمته بتهمة إفساد الشباب؛ ونكرانه لآلهة أثينا، أتيحت له عدة فرص للهرب ولم يهرب! فضل أن يشرب سم " الشوكران" لماذا لم يهرب هذا الذكي الغبي! كان يقدس ويحترم القوانين وعليه الخضوع لها حتى وإن كانت ظالمة ؛ لقد أثر سقراط فينا وفي تلامذته بل إن موته هو ما جعل عدد من الفلاسفة ينسحب من الشأن السياسي خوفا على حياته من جهة وعدم ثقته في السياسية من جهة أخرى. لقد تطرق سقراط لموضوعات متعددة والتي كان لها الفضل في تشكيل الفلسفة الغربية.

 

لقد حاول سقراط أن يحدد لنا المقصود بالخير وكذلك الفضيلة واعتبر الفضيلة هي المعرفة، تساءل أيضا حول الشجاعة، الكرامة، الحق، النفس، القانون...في هذه الورقة البحثية نريد أن نعرف كيف تطرق سقراط وتلميذه أفلاطون للعدالة؛ فقد تساءل ونحن نتساءل معه حول العدالة وهل هي منفعة للأقوى أم أنها مبدأ أخلاقي ثابت، وهل العدالة ترتبط بالفضيلة والحكمة؟ في محاورة "بروتاغوراس" حول مسألة ما إذا كانت العدالة موجودة فعلاً في الواقع؛ وقد اتفق مع محاوره على أن بعض مظاهر تحقيق العدالة في الحياة تعكس وجودها. وكالعادة تساءل وكثرة الأسئلة التي كانت تُظهر محاوره متناقض مع ذاته وتكشف جهله هي الأخرى تسببت في الحكم عليه بالموت، على العموم تساءل : ما هي العدالة؟ وما هو الفعل العادل؟ وقد عالج سقراط هذه التساؤلات بعمق في محاورة "الجمهورية" في الفصل المخصص للعدالة.

 

إذن، ما هو الفعل العادل؟ أو بعبارة أخرى: ما هو التصرف العادل؟ في البداية، يوصف فعل ما أو أمر ما بأنه عادل بمعنيين رئيسيين: الأول هو ما يُعتبر "شرعياً"، والثاني هو ما يستند إلى مبدأ المساواة. ما هو عادل إذاً هو ما يتماشى مع القانون أو التشريع (سواء كان قانوناً أو عرفاً)، وكذلك ما يتفق مع مبادئ المساواة أو التناسب. بناءً على هذا المعنى، فإن خرق القانون لتحقيق الخير قد يُعتبر فعلاً عادلاً. وعلى سبيل المثال، أخذ شخص أكثر من حصته المحددة وفقًا للقانون (مثل قانون الإرث) يُعتبر تصرفًا غير عادل. كما قال أرسطو: "الفعل العادل هو ما يتوافق مع القانون ويحترم مبدأ المساواة، أما الفعل غير العادل فهو ما يتعارض مع القانون ولا يستجيب لمتطلبات تحقيق "المساواة".

 

نعرف العدالة من خلال ضدها الذي هو "الظلم"، في أحيان كثيرة يتعرض الإنسان إلى الظلم سواء من نفسه أو من الآخر، من المجتمع الذي ينتمي إليه بثقافته وعاداته، وأحيانا نعرف العدل والعدالة من خلال تلك القواعد المتفق عليها والمؤسسات ومن خلال المبادئ الأخلاقية التي تم التعرف عليها من قبل البشرية جمعاء، هناك عدة اختلافات حول مفهوم العدالة أو التصرف العادل؛ لماذا؟ لأنه بكل بساطة قد يكون فعل ما ظلم في هذا المجتمع ولكنه في مجتمع آخر قد يكون فعل عادل.

 

وبالتالي يعتبر مفهوم العدالة مفهوم نسبي، يختلف من مجتمع إلى آخر؛ تبعا للقيم الدينية والاجتماعية وأيضا الثقافية. نعطي مثال اعتبار دور المرأة هو القيام بالأعمال المنزلية ورعاية الأسرة، هذا الأمر قد يكون فعل عادي ليس فيه ظلم لها، بناءً على معايير بعض المجتمعات، في حين قد تراه أخرى تقييد لحقوق النساء وإهمال لدورهن في الحياة العامة، حيث ينبغي أن تتمتع النساء بنفس الحقوق والفرص التي يحظى بها الرجال. مثلا تطبيق بعض العقوبات الدينية في الشريعة الإسلامية فعل عادل بناءً على تلك المعايير الدينية؛ ولكنه في الدول القانونية العلمانية يعد هذا الفعل غير عادل ويضرب في الحريات الشخصية ومبادئ حقوق الإنسان. وبالتالي نستنتج بأن العدالة نسبية.

 

  لقد ميز القدماء بين دلالات متعددة للعدالة وهي أيضا مترابطة في ما بينها، لدينا عدالة اجتماعية وأخري توزيعية والتي نقصد بها المساواة في التوزيع العادل للموارد والفرص بشكل متساو بين أفراد المجتمع، ولكي يكون كذلك ينبغي أن يكون توزيعاً حسب الحاجة وأيضا حسب الاستحقاق. العدالة التوزيعية تطرح هي الأخرى عدة صعوبات ومن أبرز من تناول هذا المفهوم الفيلسوف الأمريكي جون رولز، ونظّر للعدالة كإنصاف بمعنى ينبغي أن يكون هذا التوزيع للموارد تبعا لبعض المبادئ المنصفة والتي تتضمن حماية الحلقة الضعيفة داخل المجتمع. أيضا هناك عدالة جزائية والتي نقصد بها معاقبة كل من ينتهك حقوق الآخرين ومن لم يعدل من سلوكه.

 

على المستوى الفلسفي نعتبر العدالة هي الفضيلة كما قال سقراط والذي تعنيه فلسفة الأخلاق بصفة عامة، ونحن هنا بصدد الحديث عن العدالة في الفكر السقراطي والأفلاطوني، والذي اعتبر بأن العدالة ليست قاعدة سلوك اجتماعي أو قاعدة قانونية، ولكنها ذات صفة أخلاقية لذلك فهي ترتبط بشكل وثيق بمفهوم الفضيلة.

 

لأن العدالة في الفكر الإغريقي لا تنفصل عن الأخلاق، ورغم ذلك فقد اختلفوا حول هذا المفهوم أي مفهوم العدالة، مثلا أفلاطون يختلف في تحديده لمفهوم العدالة عن المفهوم السفسطائي لها، حيث اعتبر بأن العدالة هي تحقيق التوازن بين ما هو روحي وآخر مادي، فالعدالة لا تتبدل كما أنها لا تتغير سواء مع تغير الأزمنة أو الأنظمة، أفلاطون نظر للعدالة من خلال الربط بين العدالة على المستوى الفردي والعدالة على المستوى الاجتماعي، ونظراً لأنه يعتبر للنفس ثلاث قوى وهي: الغضبية والشهوانية والناطقة، وما يقابل هذه القوى الثلاث في المجتمع والفضيلة التي ترتبط بها ما يلي:


النفس الغضبية تقابها طبقة اجتماعية وهي طبقة الحراس، لذلك فضيلتها الشجاعة، أما النفس الشهوانية؛ تقابلها بعض فئات المجتمع من تجار وصناع وزراع لذلك ففضيلتها الطاعة. أما النفس الناطقة فالطبقة الاجتماعية التي تماثلها هي طبقة الحكام وبالتالي تكون فضيلتها الحكمة.


تتجلى العدالة هنا، في أن تقوم كل طبقة من طبقات المجتمع بدورها المنوط لها، دون ظلم وتعدي طبقة على أخرى، لأن العدالة في المجتمع هي هذا التوازن بين تلك الطبقات. رغم أن هذا المفهوم الذي وضعه أفلاطون للعدالة يكرس لطبقية صارمة، لأنه كثيراً ما قال بأن يحافظ كل من الطفل والنساء والعبيد والأحرار والحاكمين على وظائفهم و بأن يقوموا بمهامهم دون أن يتدخل طرف في مهام الطرف الآخر، وأن يؤدي كل على حدى الوظيفة المنسوبة له داخل المجتمع.

 

 مما يعني أن العدالة هي هذا الانسجام الحاصل بين الذات الإنسانية من جهة والمدينة من جهة أخرى. لأن الغاية الكبرى هي الحفاظ على المدينة؛ لأن في الدولة العادلة يقوم كل فرد بمهمته وواجبه داخل المجال الذي ينتمي إليه، هذه الطبقية في فكر أفلاطون نابعة من الطبقية التي كانت في المجتمع الأثيني.

 

 على وجه الختام، فإن العدالة تحتل مكانة جوهرية سواء فيما هو ديني أو أسطوري أو فلسفي وقانوني، وبالتالي فقد أخذت نصيبها من الكتابات في شتى المجالات. هي فضيلة وكما قال الدكتور محمد الشيخ في كتابه المؤنس في القيم: "بأن وجودها من باب وجود الماينبغيات، أي ما ينبغي أن يكون؛ العدالة هي الفضيلة اليونانية الكبرى مثلما التعاطف فضيلة الشرق البوذي العظمى والمحبة فضيلة المسيحية المثلى.


 وقد جعل اليونانيون من العدالة الفضيلة الاسمى على الأقل في خطاباتهن أو لم ير فيها ارسطو الفضيلة " الأكمل والأتم" او لم يذهب يوربيدس  إلى أنه: لا نجمة المساء ولا نجمة الصباح تستحقان ان تنالا إعجابا على نحو ما تناله العدالة". فقد كان سقراط دائما يتساءل عن جدوى أن تكون المدينة أو الدولة مزدهرة إلا أن العدالة فيها غائبة!.   

تعليقات

عدد التعليقات : 0