إن اللاقدرة على التفكير
تعد من العوامل الأساسية المسؤولة عن انتشار الشرور في العالم، وهو الرأي الذي
يطرحه الفيلسوف اليوناني أفلاطون. في هذا السياق، يشير أفلاطون إلى أن الإنسان
يمكن أن يرتكب الشر دون أن يكون له إرادة فعلية لذلك، مما يثير تساؤلاً حول ما إذا
كان الجهل هو العامل الرئيسي الذي يؤدي إلى الشر، وما إذا كانت الفضيلة تُكتسب من
خلال التعلم والتفكير الصحيح. ([1])
الشر
كنتيجة للجهل
الفيلسوفة والمنظرة السياسية حنة أرندت قدمت
مثالاً على اللاقدرة على التفكير في شخصية النازي أدولف أيخمان، الذي كان يبدو
عاجزًا تمامًا عن التفكير بشكل عميق، وكأن قدرته على التمييز بين الحسن والقبيح قد
غابت. في كتابها "إيخمان في القدس" تصف أرندت كيف أن أيخمان كان يعمل
بفعالية في تطبيق الأوامر النازية، دون أن يتساءل عن طبيعتها الأخلاقية، مشيرة إلى
أن ما كان ينقصه لم يكن الأخلاق أو المعرفة بالقيم الإنسانية، بل "القدرة على
التفكير". تقول أرندت: "وكلما استمعنا إليه، تيقنّا بأن عجزه عن التعبير
مرتبط جدا بقصوره في التفكير". ([2]) هذا يبرز كيف أن الإنسان عندما يغيب عن
ذهنه التفكير النقدي، قد يصبح قادرًا على ارتكاب أفعال شريرة دون وعي.
وفقًا لأرندت، لا يمكن للإنسان أن يكون
مسؤولا عن أفعاله في حال لم يمتلك القدرة على التفكير والتأمل في القرارات التي
يتخذها. هذا هو ما حدث مع أيخمان؛ فقد امتثل بشكل آلي للأوامر النازية دون أن يميز
بين الخير والشر. في كتابها، تشرح أرندت كيف أن أيخمان كان "عبدًا
مأمورًا" في آلة بيروقراطية لا يعرف سوى الامتثال للأوامر: "ما كان
ينقصه، تقول لنا أرندت هو ’القدرة على التفكير‘". ([3])
الشر
في البيروقراطية التوتاليتارية
يمكننا رؤية الشر بوضوح من خلال ما قامت به
الأنظمة الشمولية من جرائم بشرية. فالامتثال للقوانين التوتاليتارية أصبح سمة
بارزة في هذه الأنظمة، حيث أضحى الفرد مجرد جزء من آلة بيروقراطية ضخمة تنفذ
الأوامر بلا تفكير أو شعور إنساني. ويرى العديد من المفكرين أن البيروقراطية
الشمولية هي الأساس الذي يتيح للأفراد مثل أيخمان ارتكاب الجرائم الجماعية دون
تردد أو إحساس بالذنب. في هذا السياق، اعتبرت أرندت أن الشر الذي ارتكبته هذه
الأنظمة لم يكن سوى نتيجة لـ "التفاهة" أو غياب التفكير، حيث تصبح
الأفعال الشريرة شيئًا عاديًا عندما يغيب الوعي الأخلاقي.
محاكمة أيخمان في القدس كانت نقطة تحول في
فكر أرندت، حيث بدت أكثر تأكيدًا على أن الأنظمة الشمولية تقتل الحرية الإنسانية
وتلغيها. وبعد المحاكمة، طرحت أرندت فكرة جديدة حول العلاقة بين الفكر والعمل
السياسي، وركزت على أهمية الحرية وضرورة التصدي للأنظمة القمعية التي تقيد التفكير
المستقل. وجدت أرندت في محاكمة أيخمان فرصة لفهم العلاقة بين الشر والجهل، وكيف
يمكن للأنظمة البيروقراطية أن تقود أفرادها إلى ارتكاب أفعال غير إنسانية بدون
تأنيب ضمير.
صراع
الإنسان بين الخير والشر
إن الصراع الداخلي بين الخير والشر كان
دائمًا جزءًا من طبيعة الإنسان. كما أشار الفيلسوف الفرنسي بول ريكور، فإن ما يجعل
الإنسان قادرًا على ارتكاب الشر هو "هشاشته وضعفه"، مما يعكس ضعفًا في
الإرادة أو غيابًا في القدرة على التفكير النقدي. وفقًا لريكور، "الضعف يجعل
الشر ممكنًا بمعانٍ عدة..." ([5]) هذا الضعف الإنساني يؤدي إلى اتخاذ قرارات
غير حكيمة قد تتسبب في الشر.
الشر كـ "تفاهة" في الفكر السياسي
تعتبر فكرة "تفاهة الشر" التي
طرحتها أرندت من أبرز المفاهيم التي أعادت تشكيل الفكر السياسي والفلسفي المعاصر.
فوفقًا لها، كان الشر في حالة أيخمان مجرد امتثال للأوامر، حيث لم يكن لديه نية
خيرة أو شريرة، بل كان يتصرف كأداة في آلة بيروقراطية ضخمة. وقد قالت أرندت في
كتابها: "إن أيخمان لم يكن غبيًا ولا منعدم الأخلاق، بل كان منعدم التفكير،
وتافهًا". ([6]) في هذا السياق، يبرز الشر كأمر عادي عندما يغيب التفكير
النقدي، ما يعزز مفهوم التفاهة في ارتكاب الأفعال الشريرة.
الشر ليس مجرد أفعال فردية؛ بل هو فعل
تدميري شامل، يؤثر في العلاقات الإنسانية ويقوض أسس المجتمع. كما أشارت الفيلسوفة
الأمريكية كلوديا كارد إلى فكرة "الموت الاجتماعي"، التي تعني أن الشر
يقضي على الروابط الإنسانية ويؤدي إلى تدمير النسيج الاجتماعي. هذا المفهوم يتردد
أيضًا في فكر أرندت، التي ربطت العنف بتدمير الإنسانية، حيث قالت: "إننا
بتدمير العالم لا ندمّر شيئًا آخر سوى ما كان قد أنتجته يد الإنسان". ([7])
خلاصة: الفكر الشرير في غياب الحكمة
إن إغفال التفكير النقدي والحكمة يؤدي إلى
تغذية الشر. فقد أظهرت محاكمة أيخمان كيف يمكن أن يتحول الإنسان إلى آلة تنفيذية
للشر عندما يغيب الفكر. وعليه، فإن تربية الفرد على التفكير النقدي والمساءلة
الأخلاقية هي الحل لمواجهة هذا "الشر التافه" الذي يهدد المجتمعات
الإنسانية.
المراجع:
1.
الفعل السياسي بوصفه ثورة,
دراسات في جدل السلطة والعنف عند حنّه آرنت, مجموعة مؤلفين, إشراف وتنسيق: د. علي
عبود المحمداوي, تقديم: د. محمد شوقي الزين, دار الفارابي, بيروت, ط1, 2013, ص 609.
2.
حنّة آرنت, ايخمان في القدس,
تقرير حول تفاهة الشر, ترجمة وتحقيق: أ. نادرة السنوسي, تقديم: د. علي عبود
المحمداوي, دار الروافد الثقافية, بيروت, ط1, 2014, ص 87.
3.
مليكة بن دودة, فلسفة السياسة
عند حنّة أرندت, دار الأمان, الرباط, ط1, 2015, ص 112.
4.
الفعل السياسي بوصفه ثورة,
دراسات في جدل السلطة والعنف عند حنة آرنت, مجموعة مؤلفين, إشراف وتنسيق: د. محمد
شوقي الزين؛ دار الفارابي, ط1, 2013, ص 243.
5.
بول ريكور, فلسفة الإرادة
الإنسان الخطاء, ترجمة عدنان نجيب الدين, المركز الثقافي العربي, ط2, 2008, ص212.
6.
فيليب هانس, حنّة أرندت: السياسة
والتاريخ والمواطنة, ترجمة: خالد عايد أبو هديب, المركز العربي للأبحاث ودراسة
السياسات, ط1, بيروت, 2018, ص 250.
7.
حنة أرندت, ما السياسة؟, ترجمة
وتحقيق, الدكتور زهير الخويلدي, أ. سلمى بالحاج مبروك, دار الأمان الرباط, ص 78