انبثقت الفلسفة الأوروبية الحديثة في إطار مجموعة من التحولات العميقة التي
عرفها القرن السادس عشر. تميز هذا القرن بحدوث قطيعة مع سلطة الكنيسة التي كانت
تتمتع بنفوذ مطلق، حيث كان رجال الدين والحاكم يستمدون شرعيتهم من نظرية
"الحق الإلهي". في هذا السياق، برز فكر الأنوار الذي دعا إلى تحرير
العقل الإنساني من القيود الدينية والملكية المطلقة، مطالباً بالحرية والكرامة
والمساواة ووضع هذه القيم خارج الإطار الديني. وقد نتج عن هذه التحولات ظهور مجتمع
جديد بقيم تنويرية تبلورت بفضل جهود فلاسفة وعلماء الذين ساهموا في بناء هذا
المجتمع العقلاني والديمقراطي.
العدالة
في فكر جون لوك: الحقوق الطبيعية والعقد الاجتماعي
اعتبر الفيلسوف الإنجليزي جون لوك
(1632-1704) العدالة كوسيلة لحماية الحقوق الطبيعية للإنسان، مثل الحق في الحياة
والحرية والملكية الخاصة. بالنسبة للوك، يتحقق هذا من خلال إنشاء مجتمع سياسي مبني
على عقد اجتماعي بين الحاكم والمجتمع. وفقاً لهذا العقد، يقوم الأفراد بالتنازل عن
جزء من حريتهم مقابل ضمان حماية حقوقهم الأساسية. لكن لوك شدد على أنه في حال خرق
الحاكم لهذا العقد وانتهاك الحقوق الطبيعية، يحق للأفراد إزالته.
لوحة لوك حول العدالة
امتدت لتشمل الحرية الدينية، إذ نادى في كتابه "رسالة في التسامح"
بضرورة الفصل بين الدين والدولة، مؤكداً أن الدولة لا يجب أن تتدخل في الشؤون
الدينية والعكس صحيح. أسس لوك بذلك أسس الفكر الليبرالي الحديث من خلال تأكيده على
الحقوق الفردية والحد من سلطة الكنيسة والدولة المطلقة.
فولتير:
العدالة كتجسيد للحرية والتسامح
يعد فولتير (1694-1778) أحد أعلام الفكر
التنويري الفرنسي الذي دافع بقوة عن العدالة بوصفها تجسيداً للتسامح والحرية
الفردية. اعتبر أن العدالة تتجلى في حماية حقوق الأفراد من الاستبداد والظلم،
مؤكداً على ضرورة التخلص من هيمنة الكنيسة والسلطة المطلقة.
عارض فولتير التعصب الديني ودافع عن حرية
التعبير باعتبارها أساس العدالة. بالنسبة له، كان تحقيق العدالة يعتمد على تقليص
الملكية المطلقة وضرورة خضوع السلطة للقوانين لتحقيق رفاهية الشعب. أفكاره كانت من
المحركات الفكرية التي ساهمت في الثورات والتحولات السياسية الكبرى في أوروبا.
جان
جاك روسو: الإرادة العامة والعدالة الاجتماعية
يعد جان جاك روسو (1712-1778) من الفلاسفة
البارزين في الفكر السياسي والاجتماعي الأوروبي، حيث قدم مفهوماً للعدالة مرتبطاً
بفكرة "الإرادة العامة". حسب روسو، تتحقق العدالة عندما يعبر الحاكم عن
مصلحة الجماعة، وليس مصالح شخصية. في كتابه "العقد الاجتماعي"، اعتبر أن
الأفراد يتنازلون عن جزء من حرياتهم الطبيعية مقابل الحصول على الحقوق المدنية،
التي يحميها القانون الجماعي.
العدالة في نظر روسو تتحقق عندما تضمن
القوانين المساواة وتشارك الأفراد في صنع القرارات السياسية. كما اعتبر أن التفاوت
الاجتماعي والاقتصادي الناجم عن الملكية الخاصة هو مصدر الظلم، ولتحقيق العدالة لا
بد من التوازن بين الحرية الفردية والمصلحة الجماعية.
مونتسكيو:
فصل السلطات كأساس للعدالة
الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو (1689-1755) هو
الآخر ساهم في تكوين مفاهيم حديثة للعدالة، خصوصاً من خلال نظريته حول فصل السلطات.
وفقاً لهذه النظرية، تتحقق العدالة فقط عندما تنفصل السلطة التشريعية عن التنفيذية
والقضائية، مما يضمن مراقبة كل سلطة للأخرى ويمنع التسلط والاستبداد.
عدّ مونتسكيو العدالة مفهوماً سياسياً
وقانونياً يتصل بشكل أساسي بحماية الحقوق الفردية وتحقيق التوازن بين السلطات. شدد
على أهمية أن تتناسب القوانين مع القيم الأخلاقية للمجتمع، مؤكداً أن العدالة هي
أساس أي نظام سياسي ناجح.
كانط:
العدالة كواجب أخلاقي واحترام كرامة الإنسان
يرى الفيلسوف إيمانويل كانط (1724-1804) أن
العدالة تستند إلى احترام كرامة الإنسان والالتزام بالمبادئ الأخلاقية العالمية.
من منظور كانط، تتحقق العدالة عندما يقوم الأفراد بواجباتهم ويتصرفون وفقاً
للقانون الأخلاقي الذي يفرضه العقل.
كانط أكد على ضرورة التعامل مع الأفراد
كغاية في حد ذاتهم، وليس كوسيلة لتحقيق أهداف أخرى. العدالة، في رأيه، ترتبط بالحرية
التي تمكن الأفراد من التصرف بناءً على الإرادة الحرة واحترام حقوق الآخرين.
خاتمة: تكامل رؤى
التنوير حول العدالة
بناءً على ما سبق، يتضح أن مفهوم العدالة في
الفلسفة الأوروبية الحديثة قد مر بتطورات وتداخلات فلسفية عميقة. من جون لوك الذي
ربط العدالة بحماية الحقوق الطبيعية والفصل بين الدين والدولة، إلى فولتير الذي
جعلها تعبيراً عن التسامح والحرية، وصولاً إلى روسو ومونتسكيو وكانط الذين أضافوا
أبعاداً جديدة للفكر الديمقراطي والسياسي.
ساهمت هذه الرؤى المتكاملة في بناء أساس
متين لمفهوم العدالة في المجتمعات الحديثة، باعتبارها مبدأ أساسياً للحفاظ على
الحرية والكرامة والمساواة، وفي نفس الوقت، ضمان الحقوق الفردية والمصلحة العامة.