برز مفهوم الحداثة في الفكر الفلسفي في القرم السابع عشر والثامن عشر، رغم أن بذوره الأولى كانت في القرن الخامس عشر لأنه قرن اكتشاف أمريكا والآلة الطابعة. تطور هذا المفهوم خاصة مع فلاسفة التنوير فقد كان معناها في عصر التنوير تلك الطريقة والمنهج الذي يفكر به الإنسان سواء اتجاه نفسه أو اتجاه العالم. عندما نقول الحداثة في الغالب يذهب الذهن إلى أنها تشير إلى ما هو جديد، في مقابل ما هو قديم، عرفت أوروبا تحولات وتغيرات كبيرة على كافة الأصعدة لذلك فالحداثة مصطلح أوربي مرتبط بهذه التحولات التي عرفتها أوروبا.
لقد ظهرت عدة حركات فكرية وعلمية وأدبية وأيضا فنية جديدة. برزت هذه التيارات بشكل أكثر قوة حيث ظهرت
بكمالها في الفترة الحديثة. تفوق الإنسان أيضا على المستوى التقني، أعطى
للعلم الكلمة خاصة في القرن التاسع عشر والعشرين. بالإضافة للعلم فقد كان
للعقل تقديس من نوع خاص، خاصة في الفترة الحديثة حيث أصبح العقل أكثر تحرراً عن من
قبل له القدرة على التحليل، والنقد وبأنه أساس المعرفة وعملية الفهم. وتم
الاستغناء عن الكنيسة؛ السلطة التقليدية التي كانت تعتبر نفسها مصدر للحقيقة ولا
معرفة فوق معرفتها.
الإنسان الحديث تشكيل وعي جديد
بدأ
الإنسان الحديث يشكل وعي خاص وبمعرفة داخلية فردية أي هو مصدر الحقيقة. فقد ركز
الفرد على فردانيته وحريته وحقوقه. محاولاً قدر استطاعته التحرر من القيود
التقليدية. مما يعني الظهور
الفعلي للحداثة بأفكارها الجديدة سواء، حول الديمقراطية وحقوق الإنسان والتأكيد
على الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية، الفردانية، العقلانية،
العلم، والتقدم على المستوى الاجتماعي وكذلك التقني. لقد تميزت الحداثة بالسعي إلى التغيير، والتخلي عن
الموروث والسلطة الروحية.
يمكن
أن نتحدث أيضا عن عصر النهضة الذي انبعثت فيه العلوم
والفنون والآداب ...كذلك تم إحياء التراث الإغريقي، تم تمر الحداثة من
مرحلة عصر التنوير وأهم رموزه فولتير وكانط ولوك...
لقد تضافرت الجهود بين ما هو علمي وصناعي وفلسفي في تشكيل الحداثة؛ كان
الفلاسفة جزء من الحداثة فقد نظروا إلى العالم بمنظار
مختلف. مثلا الفيلسوف الفرنسي الذي يعتبر أب الفلسفة الحديثة رونيه ديكارت René Descartes (1596 1650)، لقد كان
ولايزال من الفلاسفة الكبار حيث فقد كان له الفضل في تطوير التفكير الغربي. كما
عُرف "بمنهجه الشكي" الذي استخدمه للوصول إلى الحقيقة وإرشاد العقل. عرف ديكارت بالكوجيتو " أنا أشك، أنا أفكر، إذن أنا موجود"، كيف لهذا الكوجيطو أن يكون بهذا التأثير ويفتح للفلسفة باب آخر من
التجديد.
رينيه ديكارت وأثره على الفكر الحداثي
فإذا انشغل العصر الوسيط
بالدين وإثباته؛ وناقشوا فكرة الله والعالم وخلق النفس سواء في الفلسفة الإسلامية
أو المسيحية؛ فإن الفلسفة الحديثة انشغلت بسؤال المنهج والطرق
التي ينبغي للعقل أن يستند عليها للوصول إلى الحقيقة. كالشك والبداهة والتساؤل والتحليل والتركيب. يعتبر كتاب "مقال عن
المنهج" من أبرز ما كتب ديكارت. فقد كتبه
باللغة الفرنسية مما يعني أنه لا يوجه لفئة معينة بل لكافة الناس ( لأن
ديكارت كان يكتب باللغة اللاتينية). من خلال هذا الكتاب يبرز ديكارت شيء أساسي هو
أن المعرفة والحقيقة ليست خارج الذات الإنسانية.
ديكارت يعلي من قيمة
’ العقل‘ وبأن لهذا الأخير القدرة على الوصول إلى حقائق الأمور وبه يصل الإنسان
إلى اليقين؛ ويمكنه السيطرة على الطبيعة. فديكارت اعتبر إذا العلاقة بين الإنسان
والطبيعة علاقة سيطرة لا انسجام. نلاحظ بروز نجم ديكارت مرة أخرى عندما ظهر مصطلح
الحداثة كيف؟ لأنه أعلى من قيمة الذات الإنسانية وجعلها هي أساس
المعرفة.
لقد اعتبر ديكارت العقل جوهر كل شيء؛ لا يمكن تصور هذه التطورات والاختراعات وعالم السياسة والعلم والعلاقات الإنسانية بمعزل عن العقل. من فلسفة ديكارت انطلقت الحداثة لأن المنهج الديكارتي عزز نمو عدة مجالات أهمها تطور الفكر الفلسفي؛ ومهد للحداثة بمنهجه الذي جعل منبع الحقيقة هو الذات الإنسانية. سعى ديكارت إلى فصل المعرفة العلمية والفلسفية عن النصوص الدينية والسلطة الروحية. كان ديكارت شديد الإعجاب بالرياضيات نظراً لأن المعرفة فيها يقينية.
فقد استخدم
الرياضيات والهندسة في بناء المعرفة الفلسفية مما يعكس لنا المسار العلمي الذي
ذهبت فيه الحداثة. بناء على ما تقدم، يعتبر ديكارت من الآباء الذين فتحوا باب
الحداثة. أيضا يعد الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (1724-1804) من أبرز من ساهم في مشروع الحداثة حيث قال عنه هابرماس بأن الحداثة بدأت مع كانط. لا شك في
أن كانط قد تأثر بديكارت، لماذا؟ لأنه اعتبر هو الآخر العقل المحكمة العليا.
النقد ودروه في مشروع الحداثة عند كانط
ذهب عدد من الدارسين
إلى ربط الحداثة بمقالة كانط ما الأنوار؟
فقد قدم كانط عدة إجابات عن هذا السؤال أهمها، هو خروج الإنسان من حالة القصور؛
وأن يكون الفرد شجاعاً في استخدام عقله فقد كان شعار التنوير: "تجرأ على استخدام فهمك الخاص"؛ والانسلاخ
عن السلطة الزمنية. فقد قام كانط بثورة فكرية لقد اعتبر بأن حقائق الأمور تصدر
من الذات الإنسانية لا خارجها. فقد لاحظ كانط بأن العلم قد تقدم في حين
الفلسفة بقيت في مكانها، لذلك راقب العقل وأعلى من قيمته وأكد على خروج
الإنسان من الوصاية التي تمارس عليه. وان يصبح شجاعا وأن لا يسمح لأحد بأن ينصب
نفسه مسؤولا عليه ويفكر بدلا منه.
فكانط لاحظ حالة الجمود العقلي التي تفشت في المجتمع حيث كان العقل تابعا للكهنوت لذلك ارتبطت الحداثة بالعقل. يعد النقد خطوة مهمة في مشروع الحداثة عند كانط فقد جعل للعقل حدود محاولاً تحقيق التوازن بين الأمور التي يمكن للعقل معرفتها والوصول إلى الحقيقة وبين أخرى لا يستطيع العقل معرفتها. مما يعني أن كانط جعل للعقل قدرة محدودة لا يمكنه تجاوزها كما أنه ساهم في نظرية المعرفة حيث جعل هناك تفاعل بين العقل والحواس في عملية تركيبية بينهما.
بناءً على ذلك نرى بأن كانط يعد من أعمدة الفلسفة الحداثية فقد عززت
فلسفته النقدية تأسيس فكر قائم على الاستقلالية الفردية ومركزية الذات وإعطاء
الإنسان الحق في تقرير مصيره سواء الفكري أو السياسي والأخلاقي.
رغم أنه يتم ربط الحداثة
بالتطور التكنولوجي، إلا أن للأفكار دور كبير في
التأثير والتي شملت جميع المجالات (سياسية، تاريخية، اقتصادية، دينية،
اجتماعية). إن الحداثة الغربية تم ربطها بالوعي والانسلاخ عن الماضي وتحكمه
في الحاضر، حيث كانت مرتكزات الحداثة الأساسية
هي مبدأ العلمانية واستقلالية العقل والتأكيد
على مركزية الذات الإنسانية، فمفهوم الذاتية اعتبره
الفيلسوف الألماني هيغل ركيزة أساسية للوصول إلى اليقين بعيداً عن أي تأثير خارج الذات.
إذن مشروع الحداثة ركز على مركزية الإنسان في الكون واعتبرته مصدر الحقيقة والقيم وإحداث قطيعة مع الكهنوت، أيضا العلمانية وقد كانت البدايات الفعلية للحداثة مع عصر الأنوار الذي كان مرحلة مهمة في التاريخ الإنساني. في خاتمة القول، تعد الحداثة تلك التغيرات والتحولات التي تطرأ سواء على الفكر أو في المجال التكنولوجي والعلم والفلسفة والفن والحياة الاجتماعية والسياسية. الحداثة تشير إلى عدة تحولات في الفكر الغربي التي بدأت مع عصر الأنوار؛ الذي دعا إلى كسر القيود التي تفرضها الكنيسة ورفض المَلكية المطلقة والوقوف في وجه الوصاية التي تحاول جاهدة إلغاء عملية التفكير واستخدام العقل.