الحداثة والتحديث: "فهم الفرق بين التحول الفكري والتغيير التقني"

سعيدة مهير
المؤلف سعيدة مهير
تاريخ النشر
آخر تحديث

الحداثة والتحديث: "فهم الفرق بين التحول الفكري والتغيير التقني"

يعد كل من الحداثة والتحديث من المفاهيم التي تُطرح كثيرًا في النقاشات الفكرية والفلسفية، خاصة في ميادين السياسة، الاقتصاد، والثقافة. ومع ذلك، هناك حاجة ملحّة للتمييز بينهما، حيث إنهما، على الرغم من وجود تداخل بينهما، يحملان دلالات ومضامين مختلفة تمامًا. غالبًا ما يتم استخدام أحدهما للإشارة إلى الآخر بشكل خاطئ، مما يُبرز أهمية فهم الفرق بينهما بعمق.               


الحداثة هي مشروع فلسفي شامل نشأ في أوروبا خلال عصر التنوير، ويمثل تحولًا جذريًا في طريقة التفكير الإنساني. تستند الحداثة إلى مبادئ مثل:العقلانية، حيث يتم تقييم الظواهر وفق المنطق والتفكير العلمي بدلًا من الخرافات والتقاليد.وأيضا الفردانية، بوصفها تمكينًا للإنسان كفرد حر مستقل، مما ساهم في تعزيز حقوق الإنسان والحرية الشخصية.بالإضافة إلى العلمانية في تعد كإطار لفصل الدين عن السياسة، وضمان الحياد في الحياة العامة.

 

الحداثة لا تهدف فقط إلى تطوير أدوات التفكير، لكنها تسعى إلى إحداث تغيير شامل في ذهنية الإنسان وسلوكياته. فهي تعمل على بناء تصور كوني متكامل، يعيد النظر في الأسئلة الكبرى المتعلقة بالوجود، الأخلاق، والتقدم. على سبيل المثال، يمكننا أن نرى أثر الحداثة في الثورة الفرنسية التي رسخت قيم الديمقراطية والمواطنة، أو في الثورة الصناعية التي أعادت تشكيل الاقتصاد والمجتمع.

 

ظهرت الحداثة كمرحلة مفصلية في تاريخ الفكر الإنساني خلال عصر التنوير، حيث ركزت على تحرير الفرد من كافة القيود التقليدية التي فرضتها الأنظمة الدينية والإقطاعية. سعت الحداثة إلى تعزيز قيم كبرى مثل الحرية، المساواة، الكرامة، والعدالة، وأكدت على أهمية العقل البشري كأداة لفهم العالم وإعادة تشكيله.

 

ارتبطت الحداثة بفلسفات متعددة، كان أبرزها فلسفة رينيه ديكارت، الفيلسوف الفرنسي الذي يُعدّ أحد أعمدة العقلانية الحديثة. بمقولته الشهيرة "أنا أفكر، إذن أنا موجود"، وضع ديكارت الإنسان في مركز الكون، مؤكدًا على قدرة العقل على بناء المعرفة بعيدًا عن السلطة الدينية أو الموروث التقليدي.

 

الحداثة والثورة العلمية

 

شهدت الحداثة طفرة علمية غير مسبوقة قادها رواد مثل إسحاق نيوتن وغاليليو غاليلي. أرسى هؤلاء العلماء أسس العلم الحديث من خلال تفسير الظواهر الطبيعية استنادًا إلى التجربة والملاحظة، متجاوزين الخرافات والميتافيزيقا التي سادت العصور الوسطى؛ كانت هذه الثورة العلمية هي الأساس الذي مكّن البشرية من تطوير التكنولوجيا والصناعة فيما بعد.

 

الحداثة والثورة الفرنسية

 

لعبت الثورة الفرنسية دورًا محوريًا في ترسيخ قيم الحداثة السياسية، حيث ساهمت في إرساء مفهوم المواطنة والديمقراطية كبدائل للنظم الملكية الاستبدادية. من خلال شعاراتها الشهيرة "حرية، مساواة، كرامة"، أظهرت الثورة نموذجًا جديدًا لتنظيم المجتمع يقوم على الحقوق والواجبات المتساوية.

 

الحداثة والفن: القطيعة مع الماضي

 

لم تقتصر الحداثة على المجالات الفكرية والسياسية، بل أحدثت تحولًا جذريًا في الفن. سعت الحركات الفنية مثل السريالية إلى تجاوز القواعد التقليدية التي كانت تحكم الإبداع. ركزت السريالية، بقيادة رواد مثل سلفادور دالي، على استكشاف أعماق العقل الباطن والأحلام، معبرة عن اللاوعي بعيدًا عن المنطق والعقلانية. كانت هذه الحركة تمثل القطيعة التامة مع الماضي، حيث أعادت تشكيل المفهوم التقليدي للفن لتصبح أداة تعبير عن الأبعاد الخفية للإنسان.

 

بهذا المعنى، لم تكن الحداثة مجرد تغيير مادي يتمثل في تطور التكنولوجيا أو المؤسسات، بل كانت تحولًا شاملًا أعاد تشكيل طريقة تفكير الإنسان وسلوكه ونظرته إلى العالم. إنها مشروع فكري يمتد إلى كافة مناحي الحياة، من الفلسفة إلى العلم، ومن السياسة إلى الفن، مما جعلها علامة فارقة في تاريخ الحضارة الإنسانية.


التحديث: عملية تقنية وأداة للتغيير المظهري

 

يُشير التحديث إلى عملية تعتمد على التقنيات الحديثة والبنية التحتية لتحسين حياة الإنسان من خلال تطوير مجالات مثل النقل، الاتصالات، والصناعة. يتمحور التحديث حول إدخال أدوات وتقنيات جديدة، مع التركيز على التغيير المظهري أكثر من التغيير الفكري أو القيمي. على سبيل المثال، يمكن لدولة أن تُنشئ شبكة متقدمة من الطرق السريعة أو تعتمد أحدث الأنظمة التقنية، لكنها قد تستمر في التمسك بمنظومات اجتماعية وسياسية تقليدية، مما يعني أن التحديث قد حدث، لكن التحول الحداثي الفكري لم يتحقق

 

الحداثة مقابل التحديث: الجوهر والمظهر

 

بينما يهتم التحديث بالتغيير في الأدوات والمظاهر المادية، تُركّز الحداثة على البُعد الفكري والفلسفي، وتسعى إلى عقلنة العالم من خلال تطوير منظومة قيم تقوم على العقلانية، الفردانية، والمساواة. بعبارة أخرى، الحداثة تعكس تحولًا جوهريًا في طريقة التفكير والرؤية للكون، بينما التحديث يعكس التحولات العملية التي تحدث في مظاهر الحياة اليوميةمثلا في مجال الاقتصاد تم استخدام التكنولوجيا لتطوير العمليات الصناعية وزيادة الإنتاجيةبينما الحداثة هي  إرساء قواعد الاقتصاد الحر أو التفكير في نماذج اقتصادية جديدة تقوم على المساواة والعدالةأيضا في البنية الاجتماعية فالتحديث هو توفير وسائل نقل حديثة أو خدمات صحية متطورة.أما الحداثة فهي تغيير المنظومة الاجتماعية بما يضمن حقوق الإنسان ويشجع التفكير النقدي.

 

رغم الفوارق بينهما، يمكن القول إن التحديث هو مظهر من مظاهر الحداثة، حيث يعتمد على تطبيق الإنجازات التقنية والعلمية التي تعتبر نتاج العقلانية الحداثية. التحديث يمثل التنفيذ العملي لبعض أفكار الحداثة، لكنه لا يرقى بالضرورة إلى مستوى التحول الفكري الذي تتطلبه الحداثة.يعتبر التحديث

كأداة للعقلنة لأن استجلاب التقنيات والاختراعات الحديثة؛ يعكس جزءًا من رؤية الحداثة التي تهدف إلى عقلنة العالم

 

ومع ذلك، إذا لم يصاحب هذا التحديث تحول فكري وقيمي، فإن المجتمع قد يظل عالقًا في تناقض بين مظهر حداثي وجوهر تقليدي. على سبيل المثال، يمكن أن تُستخدم التكنولوجيا لتحسين الحكومة في الدول الديمقراطية، لكنها قد تُستخدم أيضًا لتعزيز السلطة في الأنظمة الاستبدادية، مما يعكس غياب الحداثة كقيمة إنسانية.

 

خلاصة:

الحداثة والتحديث هما مفهومان مرتبطان، ولكنهما مختلفان جوهريًا. بينما يشير التحديث إلى عملية تقنية تهدف إلى تحسين البنية التحتية واستخدام الأدوات الحديثة لتحسين الحياة اليومية، تركز الحداثة على التحولات الفكرية والفلسفية التي تعكس عقلنة الإنسان وتغيير منظومته القيمية. الحداثة تنطوي على قيم مثل العقلانية، الفردانية، والعلمانية، وتبحث في إعادة بناء فهم الإنسان للعالم والمجتمع، كما هو واضح في تأثيرات الثورة الفرنسية والثورة العلمية. في المقابل، يظل التحديث متعلقًا بالتحولات المادية مثل بناء الطرق الحديثة وتطبيق التقنيات المتطورة، لكن دون تحقيق تحول فكري شامل. يمكن القول إن التحديث هو أحد مظاهر الحداثة، لكنه لا يتضمن بالضرورة التغيير الجوهري الذي تتطلبه الحداثة على مستوى الفكر والقيم.

 

تعليقات

عدد التعليقات : 0