جلال الدين الرومي: فيلسوف الحب والتسامح في ذكرى عرسه الروحي

سعيدة مهير
المؤلف سعيدة مهير
تاريخ النشر
آخر تحديث

جلال الدين الرومي: فيلسوف الحب والتسامح في ذكرى عرسه الروحي

جلال الدين الرومي: الشاعر والفيلسوف الصوفي الذي تجاوز حدود الزمان والمكان


وُلد جلال الدين الرومي في عام 1207 في مدينة بلخ، الواقعة في أفغانستان الحالية، ليصبح واحدًا من أبرز الشعراء والفلاسفة في تاريخ الفكر الصوفي. يُعد مولانا الرومي من الشخصيات التي أثرت في الأدب والفكر الصوفي على مر العصور، حيث ترك إرثًا فلسفيًا وروحيًا خالدًا.


عرف جلال الدين بلقب "الرومي" نسبة إلى المنطقة التي عاش فيها معظم حياته، وهي الأناضول، أو "بلاد الروم" كما كانت تُسمى في العهد السلجوقي. هذا اللقب يعكس ارتباطه العميق بهذه الأرض، التي أصبحت مركزًا هامًا في الفترات التاريخية التي عاش فيها. بعد أن انتقل إلى قونية في تركيا الحالية، عاش وتوفي هناك في سنة 1273، حيث كان له تأثير واسع على الثقافة والفكر الصوفي في تلك الحقبة؛ اسمه الكامل هو محمد بن محمد بن حسين بهاء الدين البلخي، وقد أسهم في بناء عالم روحي وفكري من خلال أشعار وكتب تُعَدُّ من بين أعظم الأعمال الأدبية والفلسفية التي خطها بشر.

مولانا جلال الدين الرومي: فيلسوف الحب ورسول التسامح بين الأديان والثقافات

يمثل مولانا جلال الدين الرومي أحد أبرز الشخصيات التي أثرت في تاريخ الإنسانية، ليس فقط من خلال إبداعه الشعري والفكري، بل من خلال رسالته الإنسانية العميقة؛ فقد كان الرومي يدعو إلى التسامح والتعايش السلمي بين جميع الأديان والثقافات المختلفة، متجاوزًا الحدود الدينية والعرقية في دعوته إلى الوحدة الإنسانية.

من خلال تعاليمه، جعل الرومي من الحب الإلهي محورًا رئيسيًا في فلسفته. فقد كان يعتقد أن الحب هو الرابط الذي يجمع بين البشر والخالق، ويعتبره الطريق إلى معرفة الله والاتحاد معه. هذه الفكرة التي لطالما تبناها في أشعاره، جعلت من الرومي فيلسوف الحب، حيث تحدث عن الحب كقوة تحولية تجمع الناس على اختلافاتهم.

لقد لفتت حكمته وأشعاره انتباه العديد من الشخصيات من مختلف أنحاء العالم، سواء من الشرق أو الغرب. شعره يحمل معاني روحانية إنسانية تتجاوز الدين وتدعو إلى التآخي والمحبة بين جميع البشر. هذا ما جعله رمزًا عالميًا، محبوبًا من الجميع، دون النظر إلى خلفياتهم الثقافية أو الدينية.

الرومي لم يكن فقط شاعرًا، بل كان رسولًا عالميًا للحب والسلام، إذ حظيت تعاليمه بمكانة رفيعة في قلوب أتباعه من جميع أنحاء العالمركز مولانا جلال الدين الرومي في تعاليمه على الحب باعتباره القوة الجامعة التي توحد بين الله والإنسان، وكذلك بين الإنسان وأخيه الإنسان بغض النظر عن الدين أو الثقافة. بالنسبة للرومي، كان الحب الإلهي هو الرابط الأسمى الذي يعبر عن الوحدة الكونية بين جميع المخلوقات. في فلسفته، يصبح الحب وسيلة للتواصل الروحي مع الخالق، وفي الوقت نفسه أداة لبناء جسور السلام والتفاهم بين البشر.

هذه الرؤية الشاملة حول الحب جعلت أعماله تتجاوز الحدود الدينية والجغرافية، إذ نجد أن أشعار مولانا وفلسفته الروحية قد تم ترجمتها إلى العديد من اللغات، ليس هذا فحسب، بل أصبح يُحتفى به كرمز عالمي للحب والسلام. يتم تكريمه ليس فقط من قبل المسلمين، بل أيضًا من قبل العديد من الأديان والثقافات حول العالم، باعتباره شخصية تجمع بين الإنسانية والتسامح والتعايش.

"سلطان العارفين"، كما يُلقب، أصبح يمثل مثالًا عالميًا للمحبة التي لا تعرف حدودًا، وأصبح إرثه الفكري والروحي محط إعجاب وتقدير من جميع أنحاء العالم، حيث يُحتفل به اليوم كرمز للسلام والوحدة الإنسانية.


ليلة عرس مولانا: احتفال عالمي بالحب الروحي والتسامح

يُعد "عرس مولانا" واحدًا من أبرز الاحتفالات الروحية التي تُنظم سنويًا في مدينة قونية التركية، إحياءً لذكرى وفاة جلال الدين الرومي. يُعتبر يوم وفاته، الذي صادف 17 ديسمبر 1273م، "ليلة عرس" في الفكر الصوفي، حيث يرى أتباعه في تلك الليلة اتحادًا روحيًا بين الرومي والخالق، محققًا بذلك الهدف الأسمى في رحلة العشق الإلهي.

تستمر فعاليات عرس مولانا لمدة عشرة أيام، ابتداءً من 7 ديسمبر وحتى 17 ديسمبر، حيث يجذب هذا الحدث الكبير زوارًا من جميع أنحاء العالم. ومع وصول الحفل إلى ليلة 17 ديسمبر، تصل الاحتفالات إلى ذروتها، حيث تُسمى هذه الليلة بـ "عرس مولانا"، وهو الوقت الذي يحقق فيه الأتباع أسمى لحظات الاحتفال الروحي والتأمل.

تتضمن هذه الفعاليات عروضًا متنوعة منها السماع الصوفي، الذي يملأ الأجواء بموسيقى تصوفية تهدف إلى الوصول إلى حالة من الصفاء الروحي، إضافة إلى الرقصات المولوية التي ابتكرها مولانا جلال الدين الرومي. تعد الرقصة المولوية جزءًا أساسيًا من هذا الاحتفال، حيث يشارك فيها الدراويش المولوين، وهي رقصة دائرية رمزية تمثل رحلة الروح في البحث عن الاتحاد بالله. هذه الرقصة الفريدة هي تعبير عن الحركة الدائمة في الكون وحب الله اللامتناهي.

بإجمال، ليلة عرس مولانا ليست مجرد حدث ثقافي، بل هي مناسبة روحانية تجمع بين البشر من مختلف الثقافات والأديان للاحتفال بحب الله والتسامح والسلام.


 رقصة السماع: تعبير عن العشق الإلهي والاتصال الروحي

تُعتبر رقصة السماع جزءًا أساسيًا من منهج مولانا جلال الدين الرومي الصوفي، وتُعد تعبيرًا رمزيًا عميقًا عن العشق الإلهي والاتصال الروحي بالله. تمثل هذه الرقصة رحلة روحية حيث يظهر العبد في حالة من الانسجام الكامل مع الخالق، والهدف منها هو السعي للوصول إلى الحالة الكاملة من الصفاء الروحي.

كل حركة في رقصة السماع تحمل معنى رمزيًا عميقًا. اليد اليمنى التي تُرفع إلى السماء تمثل استقبال النور الإلهي، في حين أن اليد اليسرى موجهة إلى الأرض، مما يشير إلى نقل هذا النور إلى العالم. هذه الحركة تجسد فكرة العطاء الإلهي والتأثير الروحي على العالم المادي.

اللون الأبيض الذي يرتديه الدراويش أثناء الرقصة له دلالة رمزية كبيرة، العباءة البيضاء تمثل التخلص من الحياة الدنيوية والتوجه نحو العالم الروحي النقي، بينما الثوب الأسود الذي يُخلع خلال الرقصة يُعتبر رمزًا للجسد والماديات. وبالتالي، يُظهر هذا التغيير في الملابس رغبة في التحرر من الارتباطات الدنيوية والانتقال إلى الروحانية الخالصة.

الرقصة تتم بحركة دائرية مستمرة، حيث القدم اليسرى ثابتة على الأرض، مما يرمز إلى الثبات على الشريعة، في حين أن القدم اليمنى تدور حول اليسرى بشكل متتابع وسريع، مما يمثل التفاعل مع الدنيا والمغريات المادية التي تُحاول تحريك الروحيُختتم هذا الطقس الروحي بالدعاء وقراءة الفاتحة، حيث يُختتم العرض الروحي بالتركيز على الروحانية والدعاء لله، مما يعكس التوجه النهائي نحو الله في أسمى حالاته.

بإجمال، تمثل رقصة السماع عند مولانا جلال الدين الرومي أكثر من مجرد أداء جسدي، بل هي طقس روحاني عميق يعبّر عن رحلة البحث عن الاتحاد مع الله والتخلي عن الدنيا والتمسك بالعشق الإلهي.

تعود رقصة السماع إلى حادثة مميزة في حياة مولانا جلال الدين الرومي، حين كان يسير في أحد الأسواق، وسمع دقات المطرقة التي كان يصدرها الحدادون. هذه الإيقاعات المنتظمة والمترابطة أثرت في الرومي بشكل عميق، فبدأ يدور في حالة من الوجد الروحي العميق، معبرًا عن تأثره بالإيقاع الذي شعُر بأنه صلة مباشرة مع النور الإلهي. وقد كانت تلك اللحظة هي البداية التي ألهمت فكرة رقصة السماع.

بعد وفاة الرومي، طوّر أتباعه، وخاصة ابنه سلطان ولد، هذه الرقصة وأعطوها طابعًا منظمًا وأصبح لها مكانة بارزة في الطقوس المولوية. لقد تمت بناء قواعد دقيقة لها، حيث أصبحت رقصة سما جزءًا لا يتجزأ من التعبير الروحي والصوفي لدى الدراويش المولوين.

تحمل رقصة السماع الآن في طياتها رمزية عميقة عن رحلة الروح نحو الاتحاد مع الله. فقد أصبحت ليست فقط تعبيرًا عن الحب الإلهي، بل أيضًا وسيلة للصوفيين للتواصل الروحي عن طريق الحركة والإيقاع. دوران الدراويش يُعتبر تمثيلًا روحانيًا لحركة الوجود الكوني، حيث يجسد السعي الدائم للوصول إلى الله من خلال الحب والتسليم.

من خلال التنظيم الدقيق لها بعد وفاة الرومي، أصبحت رقصة السماع طقسًا روحانيًا منظّمًا يرتبط ارتباطًا وثيقًا بتقاليد الطريقة المولوية. وتحافظ الرقصة اليوم على طابعها الروحي والرمزي في طقوسها وفعالياتها، حيث يُظهر كل جزء من الرقصة فهمًا عميقًا للكون والوحدة مع الله.

إجمالاً، تمثل رقصة السماع تطورًا روحانيًا نشأ من لحظة إلهام شخصية، وأصبحت اليوم طقسًا هامًا في الطقوس المولوية، يعبر عن الوجد الروحي العميق الذي يسعى المؤمنون من خلاله للاتصال بالله.

 

ليلة عرس مولانا: احتفالات موسيقية وروحية تجمع الناس من جميع أنحاء العالم

في ليلة عرس مولانا، لا تقتصر الفعاليات على الرقصات الدرويشية والسماع الصوفي فقط، بل يُعزف أيضًا العديد من المقطوعات الموسيقية الروحية على آلات تقليدية مثل الطبل والناي، التي لها دلالة رمزية عميقة في التراث الصوفي. كان مولانا جلال الدين الرومي يصف الناي في أشعاره قائلاً: "مذ قطعت من الغاب وأنا أحن إلى أصلي"، مشيرًا بذلك إلى آلام الحنين إلى المصدر الإلهي، في رمز لرحلة الروح التي تبحث عن الاتصال بالمطلق. الناي، في هذا السياق، يمثل صوت الروح المقطوعة عن أصلها، تشتاق إلى العودة والتوحد مع الخالق.

تتخلل فعاليات ليلة عرس مولانا أيضًا محاضرات ثقافية تتناول فلسفة جلال الدين الرومي، حيث يناقش المتحدثون عشقه الإلهي وفلسفته الصوفية التي تتسم بعمقها الروحي وتوجيهها نحو الحب والاتصال بالله. هذه المحاضرات تتيح للمشاركين فهم أعمق لتعاليم الرومي وتفتح آفاقًا جديدة من التسامح والتعايش بين الأديان والثقافات.

أحد أبرز الفعاليات في ليلة عرس مولانا هو زيارة مقامه في مدينة قونية. يزدحم الضريح بالزوار من مختلف أنحاء العالم، سواء من الأتراك أو الأجانب، ليشاركوا في إحياء ذكرى وفاة مولانا جلال الدين الرومي. على الرغم من مرور قرون على رحيله، إلا أن عشقه الإلهي لا يزال حيًا في قلوب الملايين من جميع الأعراق والديانات.

يأتي الصينيون، الإيرانيون، الفلنديون، الأمريكيون وغيرهم، كل عام، لزيارة قبره، ما يعكس العالمية التي تتمتع بها تعاليمه وحكمته. متحف مولانا في قونية هو المكان الذي دُفن فيه جلال الدين الرومي، وكذلك والده بهاء الدين ولد. إن زيارة هذا الضريح ليست مجرد زيارة تاريخية، بل هي تجربة روحية تحمل الكثير من الأبعاد العاطفية والوجدانية التي تفتح الأبواب للتواصل مع الروحانية الصوفية التي يمثلها الرومي.

بإجمال، تُعد ليلة عرس مولانا مناسبة روحانية وثقافية فريدة من نوعها، تجمع بين الأنغام الروحية، الرقصات الدراويشية، والتأملات الفلسفية، وتستقطب عشاق مولانا من جميع بقاع الأرض لتجديد العهد بحب الله والتعايش الإنساني، محققين بذلك تواصلًا روحيًا عابرًا للحدود واللغات

 

الاحتفال بعرس مولانا: مناسبة عالمية للتسامح والحب الإلهي

تتميز احتفالات "عرس مولانا" في قونية بأجواء روحانية عميقة حيث يتجمع الناس من مختلف أنحاء العالم للتأمل والتعبير عن حبهم العميق لفلسفة جلال الدين الرومي. تُضاء الشموع، وتُرتل الأشعار الصوفية، وتُعزف الموسيقى الروحية التي تخلق جوًا من السكينة والتأمل. هذه الأجواء الروحية لا تقتصر على مراسم الاحتفال فحسب، بل هي تجسيد حي لفلسفة مولانا التي تدعو إلى السلام والتسامح.

على الرغم من أن مولانا جلال الدين الرومي كان فيلسوفًا صوفيًا مسلمًا، فإن رسالته تجاوزت الحدود الدينية والعرقية، إذ كانت تدعو إلى العشق الإلهي الذي يُعتبر جوهرًا مشتركًا بين جميع الأديان. هذا الفهم العميق للروح البشرية جعل الاحتفال بـ "عرس مولانا" مناسبة مفتوحة للجميع، وليس مقتصرًا على المسلمين فقط. حيث كتب الرومي في العديد من قصائده أن "الطريق إلى الله واحد"، مما جذب إليه العديد من غير المسلمين من مختلف الثقافات والديانات.

لقد أثرت فلسفة مولانا في العديد من المفكرين والفلاسفة من مختلف الأديان، مثل المسيحيين واليهود والهندوس، حيث يعتبرون رسالته حجر الزاوية للتعايش والتسامح. لهذا السبب، يُعتبر عرس مولانا مناسبة عالمية تحتفل بـ الحب و السلام الداخلي. ويُرحب في هذا الحدث كل من يرغب في المشاركة، بغض النظر عن ديانته أو خلفيته الثقافية.

في الختام، يُعد الاحتفال بذكرى وفاة جلال الدين الرومي (التي تُعتبر "عرسًا" روحانيًا) حدثًا عالميًا يعكس رسالة مولانا جلال الدين الرومي التي تتجاوز الحدود الدينية وتشمل حب الله و الإنسانية جمعاء. من خلال هذا الاحتفال، يتجدد التذكير بأن التسامح و التعايش والحب تعتبر السبل التي تجمع البشر في رحلة روحية واحدة.

 

تعليقات

عدد التعليقات : 0