شمس الدين التبريزي: بين التأمل العميق وحب الله
حياة شمس الدين التبريزي كانت رحلة دائمة بين المدن، تتسم بالتأمل
والزهد والتفكر. كان يسعى بلا كلل إلى الحقيقة، باحثاً عن رفيق روحي يشاركه عمق
التأمل والتفكير في أسرار الوجود. شمس الدين التبريزي حمل في قلبه كنوزاً من الحكم
والحقائق الإلهية، وكان يتوق إلى مشاركتها مع شخص يمتلك الاستعداد الروحي لفهمها
والغوص في أعماقها معه.
يعد شمس الدين التبريزي مثل باقي الصوفيين: كشهيدة العشق الإلهي رابعة
العدوية وابن عربي والحلاج الذي توضأ بدمه عشقا لله؛ كلهم كانوا عشاقا لله، لذلك
كان شمس العارفين عاشقا لله بشكل جد عميق واعتبر الحقيقة الإلهية لا تختزل في
المظاهر والطقوس؛ بل أكد على أن الحب هو الوسيلة الأقرب إلى الرحمن؛ حيث قال:
" من السهل أن تحب إلها يتصف بالكمال والنقاء والعصمة. لكن الأصعب من ذلك أن
تحب إخوانك البشر بكل نقائصهم وعيوبهم، تذكر، أن المرء لا يعرف إلا ما هو قادر على
أن يحب، فلا حكمة من دون حب، وما لم نتعلم كيف نحب خلق الله؛ فلن نستطيع أن نحب
حقا، ولن نعرف الله حقا".
دين القلب: حارب الفهم السطحي للدين ورفع شعار البحث الداخلي
كان شمس الدين التبريزي جريئاً وشجاعاً وصريحاً في التعبير عن آرائه
بدون خوف حتى لو كانت تلك الآراء تزعج الآخرين، اشتهر بفهمه وفكره الحر والسعي
المستمر إلى البحث عن جوهر الحقيقة والبعد القوالب التقليدية. فقد كان ضد الفهم
السطحي للدين، لأن الدين في نظر سلطان العاشقين لا يمكن الوصول إلى حقيقته
بالمعرفة الظاهرة السطحية، الميكانيكية، بل من خلال التجربة المباشرة بدون وساطة
وبالتأمل الداخلي.
الدين الحقيقي بالنسبة لقطب
الصوفية هو دين القلب والحب بعيداً عن الرياء والنفاق. لذلك كان التصوف بالنسبة
لشمس العارفين هو تحرير الروح من كل قيد ظاهري والتركيز عن ما هو باطني؛ لذلك كان
دائما يدعو إلى البحث عن الحقيقة في ذات الإنسان حيث قال: " لا تبحث عن الله
في الخارج، ابحث عنه في داخلك". مما يعني أنه كان شديد التركيز على الجوهر لا
المظهر.كان شمس الدين التبريزي مثيراً للجدل وهناك من أعجب
بفلسفته الروحية وهناك من غضب منه مما جعل منه شخصية محاطة بالعديد من الشائعات
وفي نفس الوقت شخصية محبوبة عند البعض الذين حظي باهتمامهم.
شمس الدين التبريزي: البحث عن رفيق روحي في رحلة العشق الإلهي
نظراً كما سبق الذكر أن شمس الدين يملك معرفة روحية عميقة فريدة فقد قرر ألا يحتفظ بها لنفسه فقط، بل ينبغي مشاركتها مع شخص تنويري؛ لديه ما يكفي من النقاء والصفاء الداخلي، مستعد لخوض التجربة الروحية بعمقها فهي غاية وجودية روحية لإمام العارفين. كان يتوق إلى ملاقاة شخص يحمل معه هذا الهم المعرفي والعشق الإلهي حيث قال: " العاشق، يحتاج إلى عاشق آخر ليُشعل نار الحب"؛ لا بد من هذا التفاعل مع طرف آخر من أجل نقل النور الروحي.
العلاقة بين المريد والمعلم ليست
مجرد علاقة سطحية تقليدية، بل هي أكثر من ذلك، هي تواصل جوهري عميق يخلق تحولات
جوهرية في كلا الطرفين. رغم أن شمس كان قوي على المستوى الروحي ولكن كان يحس
بالغربة والوحدة في مجتمع ليست له القدرة على فهم رؤيته ونظرته للأمور. قيلت عدة
روايات حول شمس بأنه كانت لديه قدرة على رؤية الغيبيات أو باللغة الصوفية رؤية
العوالم الروحية؛ لذلك تم وصفه بالساحر والمجنون. الأمر الذي جعله في حاجة ماسة
إلى من يدرك أعماقه.
قيل بأن شمس كان شديد الدعاء من أجل أن يهيئ الله له رفيقا روحيا،
هناك روايات تشير إلى أن شمس العارفين رأى حلماً أو رؤية روحانية تبشره بأن هناك
شخص في قونية سيكون هو مرآة قلبه. بالفعل تحقق الرؤية بسفر شمس الدين التبريزي إلى
قونية من أجل هذا اللقاء التاريخي، والذي لم يكن بمحض الصدفة بل هو تدبير من
الرحمن لهما، فقد كان لهما تأثير عميق في تطور التصوف الإسلامي بل بفضلهما وصل
التصوف الإسلامي لجميع أنحاء العالم.
أما الرفيق الروحي لشمسنا فهو مولانا جلال الدين الرومي، الفقيه
والمتصوف والفيلسوف، الذي بفضل هذه العلاقة الروحية غَداَ شاعراً وأبرز رواد
التصوف الفلسفي الإسلامي. هذا اللقاء ولّد إبداع أدبي استثنائي يتجاوز الحدود ولا
يزال يُلهم العالم حتى يومنا هذا. لقد أيقظ شمس الدين التبريزي جلال الدين الرومي
من سباته وأثار فيه رغبة عميقة للتأمل الروحي، وأسهم في انغماس مولانا في التصوف
والحب الإلهي.
إرادة القدر جمعت بينهما،
ليُحدثا معاً تحولاً وإبداعاً في مفاهيم العشق والروحانية. كان لمولانا حياته
الخاصة، شيخا له طلابه وعالم دين جليل، لكن حياته ستنقلب رأساً على عقب بظهور شمس
العارفين، لقد اعتزل مولانا المجتمع، ترك تلامذته، وأيضا عائلته، وأضحت أوقاته
كلها لرفيق روحيه وخير جليس له، مع شمسه التي أشرقت عليه، صار مُريداً لمرآة قلبه.
وفي جلساتهما الطويلة كان العشق الإلهي من المواضيع الأساسية التي يتحدثان فيها.
لقد شجع شمس جلال الدين الرومي على الرقص الصوفي باعتباره وسيلة للتواصل مع الله
والتخلص من العوائق الدنيوية، وقد ألف مولانا عدة أبيات شعرية صوفية بإلهام من
سلطان العارفين فقد كان يقدم له توجيهات روحية. لأن اللقاءات كانت بمثابة دروس
صوفية في الحياة والموت والحب والعشق والحق والباطل، مما جعل مولانا جلال الدين
الرومي يتحول إلى شاعر عظيم.
لقد اعتكف مولانا جلال الدين الرومي برفقة شمسه أربعين يوماً لكتابة أربعين قاعدة في العشق التي أضحت مرجعاً صوفياً روحياً فلسفياً في العشق الإلهي. هذا القرب الروحي بين مولانا وشمسه أشعل نار الغيرة من قِبل تلاميذ وعائلة مولانا جلال الدين الرومي، حتى قيل بأنهم قتلوا شمس بمساعدة من ابن جلال الدين الرومي. هناك روايات تقول بأن علاء الدين ، ابن الرومي، كان غاضبا من شمس الدين التبريزي ولم يكن راضيا عن هذه العلاقة العميقة التي جمعت بين الطرفين، لذلك تشير هذه الروايات إلى تورط ابن مولانا سواء في اختفاء شمس الدين أو في مقتله.
رحيل شمس الدين التبريزي: شكل غيابه تحولاً روحياً في حياة الرومي
لقد اختفى شمس الدين التبريزي في ظروف غامضة غير واضحة، حزن مولانا جلال الدين الرومي على غياب شمس روحه، كما أن المرض قد اشتد به من ألم الفراق؛ سمع شمس الدين التبريزي بالخبر فعاد إلى قونية مرة أخرى، إلا أن التوتر وغيرة تلاميذ الرومي تجددت، لذلك قيل بأنه قتل وتم رميه في بئر مهجورة، ورواية أخرى تقول بأنه مات أو قتل في خوي في أذربيجان وله ضريح هناك.
رحيل شمس الدين التبريزي عن جلال الدين الرومي أحدث
له صدمة قوية وحزن عميق، لقد سبب هذا الفقدان كسرة قلب له، حولته إلى عاشق يتوجه
بكليته إلى العشق الإلهي، لقد كان شمس ينير حياة مولانا؛ فهذا الغياب الحضور جعل
مولانا يحس بأن جزءاً منه قد ضاع.
اشتياق مولانا لمرآة قلبه جعله يتواصل معه بواسطة الشعر حيث يخاطبه خطاب الحاضر. لقد انشغل الرومي بالشعر وكل ما يكتبه من أجل ملء ذاك الفراغ الذي خلفه غياب شمس الدين التبريزي, لأنه في نهاية الأمر توصل إلى حقيقة مفادها أن شمس غاب للأبد، لذلك عليه البحث عن شمس في داخله لا خارجه. قال مولانا: " شمس لم يرحل، بل ذاب في كياني، وفتح لي باباً إلى عالم الحب اللامتناهي".
في عصرنا
الحالي نلاحظ تزايد في التحديات الروحية والنفسية، وما أحوجنا إلى علاقات كتلك
التي جمعت شمس الدين التبريزي بجلال الدين الرومي، فقد ساهمت علاقتهما في إضاءة
الطريق من أجل البحث عن الحقيقة الإلهية، من خلال الحب العميق والتواصل الروحي
الخالي من المصلحة والتصنع والرياء، لأننا في زمن يعاني فيه كثيرون من الفراغ
الداخلي. حيث تلقننا هذه العلاقة درساً ثميناً في كيفية الاستماع إلى الذات إلى
الصوت الداخلي. بفضل الفكر الصوفي الذي بناه كل من شمس الدين وجلال الدين تتم
العودة إلى جوهر الإنسانية، وبناء علاقات عميقة ذات رؤية أوسع للحب والعشق الإلهي
والعلاقات الإنسانية الجيدة التي تعزز السلام الداخلي.
في الختام، عشق مولانا جلال الدين الرومي لشمس الدين التبريزي تجاوز الحدود ولم يكن حباً بالمعنى التقليدي، لأن العلاقة بينهما لم تكن صداقة عادية عابرة، بل كان عشق روحي عميق؛ أحدث تغيير جذري في حياة مولانا جلال الدين الرومي الروحية منها والفكرية. فقد انتقل من عالم دين جليل إلى شاعر صوفي ومتأمل عظيم، لأن شمس كان مرآة روحه فقد كشف له طريق العشق الإلهي. فهذا العشق الذي كان سره إلهي جعل من الرومي يكتب آلاف الأبيات الشعرية التي كانت في قمة الإبداع في التصوف الإسلامي، لقد وصف الرومي شمس بالنور الذي أضاء وأنار حياته.